رواية {قتلة}... محاولة لتفسير العنف

نرى في العديد من روايات ما بعد التغيير غوصاً في تاريخ العراق الحديث، كمسعى لإيجاد تفسيرات للوضع السياسي والإجتماعي، وما يتخلله من عنف يعصف بالبلد.
وهذا الهوس في البحث عن أجوبة لفهم ما يدور في عالمنا والحياة عموما، هو السبب في وجود الرواية كما يقول ميلان كونديرا في كتاب الستارة، "...والأمر الوحيد الذي بقي لنا إزاء هذه الهزيمة المحتومة التي ندعوها الحياة هو محاولة فهمها. وهنا يكمن سبب وجود فن الرواية". هذا الفهم نسبي، يتنوع مع تنوع فهم الروائيين للعالم. ويتراوح مدى موضوعية تفسير الروائي تبعاً لدرجة استقصائه للمعلومة التاريخية، واعتماده مصادر غير منحازة. فالرواية مطالبة بأن تطرح رؤى متوازنة وعلمية.
هذا المطلب لا يعدم الشخصيات من أن تطرح رؤاها الخاصة. فالشخصية الروائية عبارة عن فرد صُنع في لحظة تاريخية. أي أن "المتكلم في الرواية هو دائماً، وبدرجات مختلفة, مُنتج إيديولوجيا، وكلماته هي دائماً عينة إيديولوجية.
 واللغة الخاصة برواية ما، تُقدم دائماً وجهة نظر خاصة عن العالم تَنْزَعُ إلى دلالة اجتماعية". ميخائيل باختين (الخطاب الروائي). وشرط الموضوعية المفروض على الروائي يُفرض كذلك على الناقد. عليه أن يكون مجرداً بتقييمه للعمل الروائي، وأن يفصل بين الإنساني والفني. يعزل بين فنية الرواية وطروحاتها الفكرية. لا أن يلعنها ويجلد صاحبها لأنها تتعارض مع فهمه للعالم حتى ولو كانت متكاملة العناصر الفنية- احيانا يحدث العكس حيث تُمجد روايات هابطة فنياً فقط لأنها تتواءم فكرياً مع متبنيات الناقد.
نجد في بعض روايات ما بعد التغيير الرغبة في تدعيم تفسيراتها لما يدور حاليا في العراق، من خلال مسح تاريخي للمشهد السياسي العراقي. هذا المسح يمتد عميقاً في تاريخ العراق الحديث في محاولة لوضع الحاضر ضمن سياق تاريخي متسلسل. وهو ضروري في رأيي لتأكيد فكرة إن العنف والمشاكل السياسية المعقدة الحالية هي جزء من سلسلة احتلالات وتدخلات الجيران والدول العظمى وانقلابات وحروب وتهميش وقمع ونفي وحرمان وتهجير وحصار، أدت الى خلق خريطة سياسية اجتماعية معقدة نراها الآن طاغية على الساحة.

اجابة سردية

ربما يساعد هذا البحث التاريخي في جذور المشاكل بإزالة الغموض واللغط الطاغي على المشهد السياسي العراقي الذي يزداد تأزماً منذ العام 2003. فلا بد إذاً من إجابة ما, وبتفصيل سردي طويل في نص أدبي. هل هناك غير الرواية من لها القدرة على استيعاب تناقضات المرحلة، وطرحها بشكل مسهب ومشوق سعياً لفك التباسات الواقع؟
في هذا المسعى تحاول رواية" قتلة"• للروائي العراقي ضياء الخالدي، تقديم فهمها الخاص عن العنف الأهلي الذي عم العراق بعد الإحتلال الأميركي بإعتمادها المبحث التاريخي من خلال مشاهدات الرواي/البطل، عماد الغريب، العجوز الذي عاصر أحداثاً مهمة مر بها العراق منذ ستينيات القرن المنصرم.
 تبرز هذه الحقيقة منذ الصفحة الاولى حيث ينقلنا البطل بتداعياته الداخلية إلى التأريخ "أفكر في تاريخ هذا البلد. أقلّب الأحداث التي ارتكبها رجال من بلدي." الرواية ص7. مبرراً هذه التداعيات المتكررة بتوق البطل للبوح بحسراته.
اضافة إلى مشاهداته الشخصية، يكشف الراوي عن ولعه بتاريخ العراق واهتمامه بالوثائق التاريخية "حين علم حمدان بولعي منذ الستينيات وحتى الآن بتاريخ بلدنا أفضى لي بحكاية عن وجود وثيقة لدى سلمى موقَّعة من قبل سياسي عراقي في زمن الأخوين عارف، تشير إلى ما سيحدث للبلد بعد أربعين سنة. نبوءة غريبة أو تخطيط لمصالح الدول العظمى." الرواية ص50.
تدور معظم أحداث الرواية في بغداد خلال فترة القتل الطائفي التي انتشرت بعد تفجير الإمامين في سامراء.
 وتُسرد على لسان رجل مسن متقاعد ينتمي إلى احدى مجاميع القتل. يقنعه ديار، وهو صديق قديم عاد لبغداد بثروة كبيرة بعد السقوط، بالإنضمام لمجموعتهم التي هي "ليست ميليشيات حزبية أو طائفية. بل وطنية." الرواية ص48، و تسعى فقط لـ "اغتيال السيئين. تنظيف البلد من الإنتهازيين والجهلة والمجرمين واللصوص.." الرواية 34.
يسجل الراوي شهادته عن تلك الحقبة الرهيبة التي مرت بها بغداد، وعن القتل المجاني التي تمارسه الجماعات المسلحة بحجة مقاومة الإحتلال "الأعداء في كل مكان. يصعب التفريق بينهم.
 ليست لهم ملامح واضحة. من يقاتل الأميركان يمكن أن يسحق العراقي. جثة الأميركي غاية قصوى، وللحصول عليها يمكن أن ندفع عشر جثث عراقية، أو أكثر. التاريخ كفيل لكل مجموعة مقولة تُختطف منه لتبرير هذه المعادلة... تاريخ منفلت، وفي متناول الجميع." الرواية ص106.
كلٌ له تبريره في القتل. فعماد يحاول عبثاً إرضاء ضميره بالقول "الجريمة يعاقب عليها القانون لأنها ارتبطت بنوازع تافهة، وبطموحات فردية ضيقة. أما إذا أصبحت منظمة واجتماعية، صارت نضالاً من أجل المجمتع." الرواية ص114. وغسان، الشاب الذي انتمى لإحدى المليشيات انتقاماً لمقتل أبيه الذي يظن أنه قتل على الهوية الطائفية، يبرر "نحن نقتل السيئين، وكل من يساند الحيوانات التي تفجر نفسها." الرواية ص102. والشيخ مؤيد، "القائد العام للقوات الملثمة" له تبريره، وميليشياته التي يزعم إنها تستهدف "المرتزقة الذين يعملون مع الاحتلال." الرواية ص106.
هناك خيط آخر يحاول الراوي تمريره بين أجزاء تاريخ العراق خلال العقود السابقة، وهو سيطرة أبناء الريف على الحكم "ذاكرتي تحمل بغداد أخرى... بغداد النظيفة من دون أحزابها ومغامرات جنرالاتها الريفيين." الرواية ص120.
 وتتكرر انتقادات عماد لسلوكيات أبناء الريف الذين اجتاحوا العاصمة وشوّهوا مظهرها المدني المتحضر.
نهاية فنتازية

عندما يكتشف عماد إن مجموعته ترتكب أخطاء فادحة بقتلها عراقيين أبرياء، وإن هدفها الأهم هو إبقاء العراق في دوامة القتل، وأن من يحركها هي أياد خارجية، يترك العمل معها، ويختبئ عند صديقه من الطائفة الأخرى. ثم يهرب وزوجته إلى كركوك للحفاظ على حياته، فتطارده المجموعة لقتله. لكنه يقرر العودة إلى بغداد في تاكسي. لتنتهي الرواية بمشهد يحتمل عدة تأويلات، ويعكس فنطازيا الواقع العراقي. حيث يضطرون للوقوف في منتصف الطريق بسبب وجود رتل عسكري أميركي. تتجمع خلفهم السيارات. يظلون هكذا عالقين في العراء خلف الرتل الاميركي إلى أن يحل الظلام "كنت أنظر الى مشهد سوريالي غريب: الجنود يصوبون مصابيحهم ويصرخون. والسائق يمسك قنينة العرق بيده اليمنى، ويصب في قدح يحمله باليسرى. لم ينظر إليهم. كان غير مبال بهم، ولا برشاشاتهم. حين وصلوا إليه، ابتسموا، وقال أحدهم:  “‘Good’الرواية ص189. ثم يشاركه عماد القنينة، ويغط في نوم عميق على حصيرة القش في الشارع، والأميركان ما زالوا في مكانهم.

هوامش
• صدرت الرواية عن دار التنوير / بيروت 2012، وهي الرواية الثانية لضياء الخالدي بعد رواية "يحدث في البلاد السعيدة".