عرض لكتاب آلهة في مطبخ التاريخ



الباحث الذي يطمح للحصول على كشف جديد في مجال الدراسات الإنسانية أو قراءة تغاير الصورة النمطية المتوارثة هو يشبه المنقب الآثاري الذي يحفر في التربة للعثور على لقية آثرية يمكنها أن تجيب عن أسئلة كثيرة. الأول ينقب في تلال من الكتب والثاني يحفر في تلال من التربة. هناك في كلتا الحالتين أتربة وغبار تخفي حقيقة معينة قد تفتح آفاقا معرفية جديدة. كلاهما يُخضع هذه اللقية للفحص العلمي الدقيق ومعالجتها في مختبر العلوم الحديثة ولصقها بلقية أخرى وأخرى سعيالإكمال صورة مكتشفة تكون أقرب ما يمكن إلى الحقيقة، أو على الأقل خلق رؤية أكثر منطقية وعقلانية عن المادة التاريخية موضوع الدراسة.
من هذه البحوث التي تدعى أنها حققت كشفا جديدا في مجال الدراسات التاريخية هو كتاب (آلهة في مطبخ التاريخ: قراءة في تاريخ سورة الفاتحة) للباحث جمال علي الحلاق الصادر عام 2012 عن دار الجمل. أخذ صاحبه على عاتقه مهمة التنقيب العميق والحثيث في ركام من المصادر المتنوعة للتعرف على الجذور التاريخية التي شكلت نص سورة الفاتحة بعين فاحصة وموضوعية تعتمد المنهج العلمي الرصين بعيدا عن تأثيرات المقدس والمألوف والمتوارث. سعى فيه الباحث إلى خلق شبكة من العلاقات مابين النقاط المتناثرة في كتب التاريخ للخروج بقراءة جديدة للنص.
وجمال الحلاق هو شاعر وباحث عراقي مقيم في استراليا له العديد من المؤلفات والدراسات المنشورة منها: (تحطيم الأصنام: محاولة في صحو) و (مسلمة الحنفي: قراءة في تاريخ محرم) و (فن الإصغاء: قراءة في قلق المنفتح).
أود هنا أن أستعرض هذا كتاب (آلهة في مطبخ التاريخ) بشيء من التفصيل لما يتضمن من طروحات عميقة ومهمة عن موضوعة الإله وعن اللحظة التاريخية المؤسسة للدين الإسلامي من خلال دراسة تاريخ سورة الفاتحة. وهذه الطروحات المغايرة تزعزع الفهم التقليدي الذي تصدره المؤسسة الدينية كفرض واجب الإيمان به، وتسوره بهالة من القدسية المنيعة التي لا تقبل الجدل والتشكيك بغض النظر عن الخرافات العالقة به. وربما هذا ما جعل مرجعا كبيرا كالسيد كمال الحيدري أن يتناوله في أكثر من حلقة في سلسلة محاضراته (حوار مع الملحدين) حيث قال عنه في الحلقة السابعة والعشرين "كتاب خطير جدا" محذرا أتباعه، بما يخص هذا الكتاب وكتب أخرى سماها بكتب الضلال، من عدم الأقتراب منها من الذين ليست لديهم (المقدمات الكافية لمطالعة مثل هذه الكتب). والمفارقة أنه يعود للكتاب مرة أخرى في حلقتين لاحقتين ليقتبس منه بعض العبارات بانتقائية ليوظفها بطريقة تصب في المجرى العام لما يصبو له في تلك المحاضرات.
يتضمن كتاب (آلهة في مطبخ التاريخ)  من أربعة مباحث هي على التوالي: المعرفة الجديدة تخلق إلهها الجديد، الإنتشار الجغرافي لعبادتي الرحمن والله في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، الجذر التاريخي العميق لسورة الفاتحة، الشكل الأول والصيغة الأولى لسورة الفاتحة.
يقوم الكتاب كما يؤكد صاحبه على "أساس منهج النشوء والإرتقاء الذي أعتمده دارون في الكشف عن آليه التغيير التدريجي..." ص9 مطبقا هذا المنهج على الأفكار واللغات التي تحتويها باعتبارها كائنات حية. والباحث ينطلق "من فرضية أولى تقول إن كل كلمة داخل وعاء اللغة تمتلك تأريخا خاصا بها، يبدأ بولادتها على صعيد التداول الاجتماعي، ثم يتفتح سجل تحولاتها وقدرتها على استيعاب دلالات أخرى، قد تكون مناقضة تماما لبدايتها الأولى، لكنها في النهاية- مثل أي شيء يمتلك بداية- تصل الى الجدران النهائية لعالمها الخاص، فتتوقف كمتحجرة داخل القاموس العام للتذكر." ص10. وهو هنا يعني التغييرات التي تطرأ على البعد الديني داخل اللغة وما قد تشكله عملية نحت أسماء جديدة للآلهة على النص الديني.
المبحث الأول من الكتاب يتناول تأريخ الآلهة وولاداتها وأنسابها وتصاهرها وانتصراتها ووقوعها في الأسر وممارساتها الجنسية إلخ. عندما يتحدث عن الآلهة ينقل لنا شيئا من تجربته الشخصية وتجواله بين آلهة المذاهب والأديان المختلفة وآلهة الوثنيين. وعن إله المجمعات المدنية فـ "الدستور في المجتمعات المدنية الحديثة هو إلهها الجديد المتجدد، فكل إضافة على الدستور هي إعادة في صياغة الإله المدني، وهو إله يتقاطع إجتماعيا مع أشكال الآلهة القديمة، من خلال فتح نافذة حقوق الإنسان..."ص43.
 في هذا المبحث الذي يختلط فيه الفلسفي بالعلمي يتحدث الكاتب عن (إله) آنشتاين و (إله) ستيفن هاوكنغ. أما السعي لفهم إله آنشتاين غير التقليدي فتتطلب الإقامة هناك في الكون وليس على الأرض ومحاولة تعلم قوانين الفيزياء الحديثة. فإله آنشتاين "ليس أرضيا، ولا يمكن الإقتراب منه دون معرفة آخر النتاجات العلمية" 49. وهو بهذا يختلف عن إله هاوكنغ رغم "إنهما يتصلان بصلة نسب علمي" ص54 . إختلاف ناتج من رؤيتهما المختلفة لهندسة وبرمجة الكون. وكلاهما كرجلي علم يتعارض مع رجال الدين، وآلاهيهما "لا يمتان بصلة إلى آلهة التوراة والأنجيل والقرآن" ص59.
في المبحث الثاني يتناول الباحث إنتشار اليهود والمسيحيين في الجزيرة العربية الذين هاجروا بحثا عن النجاة حيث كانت قبل الأسلام حاضنة للتعددية الثقافية. ويقول إن هجرات المسيحيين بدأت تأريخيا الى شبه الجزيرة العربية مع بداية إضطهاد الكنيسة الرسمية للآريوسيين في أوائل القرن الخامس الميلادي، وتوقفت مع صعود الإسلام بعد وفاة محمد بن عبد الله في الربع الأول من القرن السابع الميلادي. فكانت هذه الهجرة عاملا أجتماعيا مهما صعد من لغة الحوار الديني عربيا. مضيفا إن العرب "لم يقتصروا على سماع أراء الآريوسيين والنساطرة واليعاقبة والأبيونيين، بل أن رحلاتهم التجارية –شتاء وصيفا- جعلتهم يحتكون أيضا بالمؤسسة المسيحية الحاكمة سواء أكانت في بلاد الشام، أو في بلاد اليمن والحبشة" مما شارك بشكل فاعل في تشكيل ظاهرة التحنف العربي التي أبتدأت فردية مقلدة إلى أن "تتوجت بتيار الأحناف قبل الإسلام" ص68.
بعدها يخوض الباحث في أصل كلمة (الرحمن) وتتبع جذورها في اللغات الأخرى ليثبت إنها اسم لإله آخر غير (الله). وهنا أود أن أنقل عن السيد القمني في كتابه "الحزب الهاشمي" تأكيدا لهذه المعلومة "... فحوالي القرن الأول قبل الميلاد كان بعض أهل اليمن يعبدون إلها باسم (ذوي سموي) أو إله السماء، كأله واحد، وقد ذكرت نقوش المسند اليمنية عبادة إله واحد يدعى (رحمن)، ويرى الباحثون أنهما كانا مسميين لواحد، وتؤكد (ثريا منقوش): إن عباد هذا الإله كانوا يعرفون بالأحناف" الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية ص 111.
يذكر الحلاق أنه من خلال حواراته الشخصية مع آثوريين قد وجد أن اسم الرحمن لديهم هو (رخمانا) وهو يشير إلى اسم الرحمن كإله. وكان المبرّد وأحمد بن يحيى ممن يقولون بعبرانية اسمي الرحمن. كما وينقل عن أستاذ التوراة واللغات السامية الألماني ثيودور نودلكه في كتابه (تاريخ القرآن) صفحة 101 "ويبدو أن (الرحمن) ككلمة وكإسم كان نادر الإستخدام في اللغة الآرامية المسيحية، لكنها أصبحت في التلمودين –البابلي والفلسطيني- أحد أسماء لله المعروفة" الكتاب ص72.
ومن خلال تتبع معنى كلمة (الرحمن) التي وردت في أبيات بعض الشعراء ما قبل الأسلام يثبت أن لا علاقة للرحمن بالرحمة. وكذلك من خلال تلبيات بعض القبائل المتجهة للحج "كتلبية قيس عيلان كما وردت في تاريخ اليعقوبي:
 لبيك اللهم لبيك
 لبيك أنت الرحمن
وأيضا تلبية عكّ والأشعريين:
 نحج للرحمن بيتاً عجبا
مستتراً، مضبباً، محجّبا"
 لينتهي الباحث الى إعتقاد بأن "الرحمن ككلمة ليس عربيا، بل تم تعريبه، وأنه كعبادة هاجرت من الشمال الى الجنوب، دون أن أحدد جهة بعينها، فقد هاجر بعض الصابئة أيضا الى شبه الجزيرة العربية بعد سقوط بابل، ولعل للرحمن صلة نسب بآنو كبير ألهة السومريين، وأن رحمان جائت من (رحم آنو)، على حد تعبير بعض المندائيين" ص76.
ثم يشرح الكاتب مراحل تطور اسم (الله) فيقول في هذا الصدد "والأُلاهة: الشمس الحارة، وحكي عن ثعلب: الأليهة، والأُلاهة، والإلاهة وأُلاهة كله: من أسماء الشمس... وقد أختفى هذا الإسم من القاموس الحياتي اليومي مع صعود إسم (الله)" ص83. وهذا الإختفاء حدث أيضا لإسم (اللّهم) القريب من إسم (إلوهيم) العبري كونه كان يمثل مرحلة من الوعي تسبق مرحلة الوعي باسم (الله). حيث يعتقد الباحث أن اسم (اللهم) هو تعريب لاسم (إلوهيم: Elo him) الوارد في النص العبري لسفر التكوين في الإصحاح الأول من العهد القديم ويعني الخالق ويشير إلى الإله الواحد بينما يشير الى (الإله الإبن) في العهد الجديد. وينهي هذا الفصل بخلاصة مفادها "أن نحت اسم (الله) كان تجربة حجازية صرفة، إستغرقت زمنيا قرابة قرن ونصف من الجدل الحنيفي، مرت خلالها بكل المراحل التي تحدثنا عنها سابقا، إبتداءً من مرحلة (اللهم) مروراً مرحلة (الإله) حتى تم الوصول أخيراً الى تجربة (الله) التوحيدية الخالصة على يد زيد بن عمرو بن نفيل، التي تبناها محمد بن عبد الله مع بداية دعوته" ص92.
 هذه التحولات التدريجية التي تطرأ على الآلهة بفعل نار التغيرات الإجتماعية والسياسية واللغوية تشبه إلى حد ما عملية طبخ على نار هادئة.
في المبحثين الثالث والرابع يتناول الباحث موضوعة (تاريخ القرآن) وتتبع المراحل التاريخية لنشوء وتطور سورة (الفاتحة) من لحظة تأسيس نصها الأول قبل الأسلام الى لحظة تثبيتها كسورة أولى في مصحف عثمان بن عفان.  والكاتب في هذا ينطلق من رؤية تعلن "أن نصوص القرآن هي إلهام تجارب (ذاتية/إجتماعية) ابتدأت مع بداية نشوء وانتشار ظاهرة التحنف في شبه الجزيرة العربية، وأنها نتيحة للتراكم التجريبي العام، بلغت ذروتها مع تجربة محمد بن عبد الله وصحابته داخل بنية العقل الحنفي/الإسلامي لاحقا" ص101. ويمر سريعا على بعض المصادر التي بحثت في حقل (تاريخ القرآن) وهي على التوالي:
1-  كتاب المصاحف للسجستاني.
2-  أسباب النزول للنيسابوري.
3-  الإتقان في علوم القرآن للسيوطي الذي يقول عنه الباحث إنه أول موسوعة حقيقية في هذا الحقل.
4-  تاريخ القرآن لأبو عبد الله الزنجاني الذي أضاف مصحف جعفر بن محمد الصادق للكتاب مع مصاحف كل من عبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس.
5-   تاريخ القرآن لإبراهيم الإبياري.
6-  تاريخ القرآن العظيم لمحمد سالم محيسن.
7-   أوائل السور في القرآن الكريم لعلي نصوح الطاهر.
8-   تاريخ القرآن لنولدكه الذي يعده الباحث أهم موسوعة شاملة تنالت هذا الحقل.
9-  تدوين القرآن لكانون سل الذي تتبع فيه الإعتراضات الشيعية بخصوص مصحف عثمان.
10- تطور القرآن التاريخي لكانون سل.
ومن خلال دراسته للكتب المتخصصة في (علوم القرآن) يحاول الباحث التوصل إلى مفاتيح جانبية تمكنه من فتح أبواب أخرى "تمتد إلى مديات خارج النص القرآني لسورة الفاتحة، بل تجعلني ألجأ الى التجربة الاجتماعية والثقافية للنص" ص105.
يذكر الباحث الإختلافات بين مدونيّ المصاحف بخصوص سورة الفاتحة فهي جاءت السادسة حسب الترتيب في مصحف عبد الله بن عباس ولم يكتبها عبد الله بن مسعود في مصحفه ولم يعثر على ذكر لها في مصحفي علي بن أبي طالب وجعفر الصادق. وفي هذا الصدد كان الباحث قد راسل المرجع الديني علي السيستاني بتاريخ 20/10/2009 يسأله عن سبب غياب ذكر سورة الفاتحة في مصحفي الإمامين. ليأتيه الرد بعد ثلاثة أشهر من قبل مكتب السيستاني بعدم صحة ما نسب إلى الإمامين وأن إسقاط الفاتحة من السور مبني على (مسلك القوم)! ويتضمن الرد أيضا سردا لأهمية سورة الفاتحة في مذهب (أهل البيت) وفضلها ومايترتب على قراءتها (كشفاء المريض، بل ورد عن الإمام الصادق عليه السلام لو قرأت الحمد على ميت سبعين مرة ثم ردت فيه الروح ما كان عجبا) ملحق1.
يذكر الكاتب نقلا عن السيوطي خمسة وعشرين أسما لسورة الفاتحة مع شرح سريع لبعض هذه الأسماء. ثم يتوقف عند خمسة أسماء منها فقط لتأكيد أرتباطها بالصلاة والتأسيس لفكرة قدم سورة الفاتحة. وينقل بعدها عبارات لبعض المفسيرن تدعم قضية كون هذه السورة هي أول سور القرآن وأنها من السور الأساس مما يتنافى مع قصة غار حرّاء لينتهي بالتصريح "أن التقاطعات في الأخبار الواردة حول البداية الأولى يمكن أن تكون نافذة مهمة لإعادة قراءة التأريخ الإسلامي بأكمله" ويضيف في الصفحة التالية "فالقول بقدمها، وبأنهم كانوا يسمونها (الأساس)، يتضمن قراءة لا تتوقف زمنيا عند بداية الدعوة المحمدية، بل الى ما قبلها، وأقصد تاريخ الجيل الأول من الأحناف" ص121.
ثم يستعرض دور بعض الصحابة والأحناف من الجيل الأول في عملية إنتاج النص القرآني. خصوصا الحنفي زيد بن عمرو بن نفيل الذي ينعته بعض مفسري القرآن بـ (موحد الجاهلية) ومنهم من أعده (نبيا) أو (نصف نبي). حيث يقول الباحث أن سورة الفاتحة أكثر إلتصاقا بالتاريخ الشخصي لزيد بن عمرو بن نفيل وبتجربته الروحية. كما إنها جاءت حسب إعتقاده على مرحلتين في مكة وفي المدينة بعد أن تم إدخال اسم (الرحمن) كجزء من السورة "وهذا التغيير يعني أن اسم الرحمن لم يكن يذكر في صلاة المسلمين الى لحظة إعادة إنتاج سورة الفاتحة في السنة التاسعة للهحرة" ص167.
ينهي الباحث فصول المبحث الرابع بوضع الصيغة الأولى لسورة الفاتحة التي تختلف عن الصيغة اللاحقة والمثبتة في مصحف عثمان كنتيجة للتنقيب العميق وفق منهج علمي رصين. خاض فيه الحلاق في أكثر من مئة وثلاثين مصدرا من مصادر التراث الإسلامي والعربي والإستشراقي باللغة العربية والأنكليزية. وهو بهذا يكون قد وفق بتقديم رؤية أكثرعقلانية ومنطقية عن تاريخ سورة الفاتحة تختلف عن الرؤية التي تفرضها المؤسسة الدينية تعد بمثابة الكشف في مجال البحث التاريخي.

المقالة منشورة في موقع جمعية الآوان