النهايات المفتوحة في مجموعة (مدن)

 


بالإضافة إلى الإشارة المكانية في العناوين المزدوجة لقصص مجموعة (مدن) للكاتب حسين السكاف، نجد أن هناك رابطاً آخر تشترك فيه معظم القصص وهو النهايات التراجيدية والمفتوحة. والنهايات المفتوحة في النصوص السردية، كما هو معروف، يتيح للمتلقي فسحة من التأمل عميقاً. تأتي بعيد الانتهاء من القراءة، ليس فقط تأملاً في تأويلات الخاتمة بل أيضاً في ثنايا النص وثيمته الرئيسة. بتعبير آخر، أن النهاية المفتوحة تقترح احتمالات عدة لنهاية الحكاية، في مقابل النهاية المغلقة التي لا تحتمل أكثر من تفسير واحد.

تتكون المجموعة من اثنتي عشرة حكاية تحدث في أمكنة (مدن) متنوعة نعرفها من العناوين، إذ يكون هناك عنوان أولي لكل قصة يشير إلى المدينة التي تقع فيها الأحداث، ومن ثم يأتي عنوان القصة الرئيسي.  تمتد هذه الأمكنة من بلدة في ريف مصر (الصعيد – نجع الزيادي) إلى مدن حديثة في أروبا  ك (برشلونة) أو (كوبنهاغن). فضلاً عما تضمنته المجموعة من مدن متخيلة ك (مدينة الخبز) و(مدينة المعبد). 

وما يلفت النظر في هذه المجموعة هو أن شخصياتها ينحدرون من جنيسيات مختلفة عربية وأجنبية، سُردت حكاياتهم بلغة سلسلة ومتماسكة بعيداً عن التقعرات اللغوية اليابسة التي تشوش مسرى سرد الأحداث.

من أول قصة في المجموعة (بودابست "تحت تمثال كالفن") تتضح لنا قصدية المؤلف باعتماد مفهوم النهاية المفتوحة لختم حكايات مدنه. تنناول هذه القصة موضوع تفشي وتجذر الكراهية عميقاً في المجتمعات المختلفة حتى أكثرها تقدماً. بطل القصة هو لاجئ سوري  ينتظر موعد لقاءه مع المهرب الذي سيعبر به الحدود إلى ألمانيا. وخلال الفترة القصيرة التي يقضيها في هنغاريا يعاني فيها من الكره الواضح على تعابير الوجوه من قبل بعض الناس. وهذا لكره كان من ضحاياه حتى صاحب التمثال (جانوس كالفن 1506 – 1564م) رغم نضاله من أجل بناء مجتمع قائم على الحرية المثالية. بعد حوار طويل مابين البطل (نورس) والتمثال تنتهي القصة بجملة تنفتح على عدة تأويلات: "أعتقد أنني كنت أسمع قصة الرجل البرونزي صاحب التمثال." ص 15.

ونجد هذا النمط من النهايات أيضا في القصة الثانية (مدينة الخبز "بلدة الشبابيك"). تتناول هذه القصة موضوع الزواج أو العشق المفروض على الأهل. وهذا التحدي للمنظومة الاجتماعية التقليدية نجده عند الشخصية المحورية (فيروزة) وأيضاً عند شخصيتين ثانويتين هما، نبهان والبهية. وقد انتهت أحداث القصة المأساوية بالشكل التالي: "وصار ليل البلدة عابقاً بحنين عزف الناي الحزين الآتي من خَربِة (البهية) صانعة التنانير". ص22.

وفي القصة الثالثة (اسطنبول "المكتئب الدنماركي") التي تتحدث عن سائح دنماركي مصاب بانفصام الشخصية ينصحه طبيبه بزيارة اسطنبول، لا تكون النهاية مفتوحة لكنها تراجيدية: "في صباح اليوم التالي، كتبت الصحف التركية، عن انتحار سائح دانماركي منتصف الليلة الماضية وسط إسطنبول." ص32.

وفي قصة (مدينة المعبد "قلادة أمينة") التي يغلب عليها طابع الرمزية الدينية، وموضوع صناعة المقدس والتضحية من أجله. فمجرد أن يعطي رجل شراباً ساخناً لخليط أعشاب إلى مريض، ليشفى بعدها، يصبح هذا الرجل (المبارك) مشهوراً في المدينة خلال ثلاثة أيام ثم يبنى له معبداً يصبح مزاراً فيما بعد: "يؤمه الناس من كل مكان." ص36. ويتغير أسم المدينة على هذا الأساس من (مدينة النهر) إلى (مدينة المعبد). وتصبح أسماء الشيوخ المتوارث زعامتهم للمعبد لها دلالات روحية مقدسة. فتنقش أسمائهم على الليرات الخمس في قلادة أم الرواي (أمينة). وتأتي النهاية مفتوحة وتراجيدية: "ماتت (أمينة) وبعدها بثلاث سنوات ماتت المرابية (ملكية)، وصارت قلادة أمي إرثاً توارثه أحد عشر ابناً من أبناء المرابية... وظلت مدينة النهر تدعى ب (مدينة المعبد)." ص 42.

القصة الخامسة والمعنونة (بغداد "مشهد من هنا...ك") هي عبارة عن مشهد حواري عميق وطويل عن الوضع السياسي العراقي العام بين شاب (خباز) ورجل أربعيني (شاعر) يلتقيان لأول مرة في مقهى بغدادي. نعرف فيما بعد أن شخصيتي القصة الأساسيتين هما شاب و زوجته كانا خلال زمن سرد الحكاية يتفرجان على مسرحية تنتهي بإنفجار المقهى. تأتي نهاية القصة بدلالات متعددة: "إنها ببساطة يا زوجي العزيز... مجرد مسرحية!". ص52.

أما القصة السادسة (برشلونة "صانع الوهم") فتدور أحداثها في مدينة برشلونة وبطلها عجوز أسباني يدعى (خوان غاودي). وهي أيضاً تتضمن حواراً معرفياً عميقاً عن مفهومي الوهم والحقيقة بين الشخصية المحورية (العجوز) وشاب من أمريكا اللاتينية يصنع فقاعات من صابون عن طريق حبل مربوط إلى عصوين. يقول الشاب (صانع الوهم) إنه يبحث عن الطفل أو الإنسان الذي لا يسحره الوهم (الفقاعة) بقدر أهتمامه بدراسة مصدره. وينعكس هذا، بوضوح، على كل وهم في عالمنا، إذ يدعونا النص لأن نتفكر في آليات انتاج الوهم. أي أن علينا رؤية ما وراء الظواهر والتعرف على محركاتها الأساسية. وقد جاءت النهاية بالفقرة التالية: "ابتسم السيد غاودي، وهو يستمع لكلمات الشاب التي تحاول إفهام الأطفال بأن الفقاعات مجرد وهم يبعث للمتعة، وأن الحقيقة تكمن في الخيوط والصابون والريح الذين يصنعون الفقاعات العصية على الإمساك، كونها وهما يشبه الحقيقة..." ص57.

تدور أحداث القصة التالية (دمشق، عدرا "988 والعم شوكت") داخل أحد أجنحة سجن عدرا المركزي. حيث تنشأ علاقة صداقة بين شاب سوري يدعى (رامز) أو (988، الرقم المثبت على بدلة السجن) وبين السجان (العم شوكت). يتعاطف السجان مع السجين البريء والمتورط بدون قصد في قضية تهريب مخدرات من لبنان. بعد سنوات طويلة من الحبس وبعد عامين من تفجر الأحداث المأساوية الدموية في سوريا يغادر كل من كان في السجن "بسرعة جنونية" بعد سماع أصوات "انفجارات متلاحقة". يهرب الأثنان إلى السويد. ونعرف مصيرهما من الخبر الذي نشرته صحيفة محلية سويدية: "صديقان سوريان يلعبان لعبة السجين والسجان، منذ ثلاثة سنوات، داخل مسكنهما المشترك، في شارع (بربارا غاتن) وسط ستوكهولم." ص63.

نرحل بعدها إلى مدينة (مراكش "عند سوق دوار العسكر") حيث تُسرد الحكاية هذه المرة  بصيغة المخاطب (أنت) لكنها تتحول في الخاتمة إلى صيغة الرواي العليم. وهي عبارة عن أحداث متخيلة تدور في ذهن شاب يحلم بكتابة رواية. ويعرض لنا المؤلف مخططاً عاماً لأحداث رواية سوداوية عن بائع بهارات في أحد أسواق مراكش الشعبية، متوقعاً هروب القاريء: "خوفاً من أن تلهتمك نيران النص الكارثي الغارق بالمأساة تاركاً مشروع روايتك إلى الجحيم." ص67. وتنتهي القصة هكذا: "حيث راحت مخيلته تنسج أحداث رواية وهو ينظر بإمعان صوب بائع البهارات المبتسم على الدوام..." ص67.

تدور أحداث قصة (الصعيد – نجع الزيادي "عصافير الهايلة") في قرية نجع الزيادي في صعيد مصر وليست في المدينة. تحكي عن علاقة حب بين الصبي (غباش) مع فرس العمدة (الهايلة): "... وتوجه صوب الزريبة، كأنه على موعد مع عشيقة انتظرها طويلاً..." ص72.  وتنتهي القصة بتحقيق حلم الصبي بأن يمتطي ظهر الفرس أول مرة ويذهب معها  بعيداً رغم أن ساقها "معطوبة" حيث كانت تمشي بخطى غير متزنة جعلت (غباش) يرى العالم يرتفع ويهبط: "يرتفع صوب اليسار ويهبط يميناً." ص74. والنهاية كانت أيضاً مفتوحة: "... والذي شاع في النجع، أن غباشاً قد وصل بالهايلة البحر، لكن لم يقف عنده بل ظل البحر يرتفع شمالاً ويهبط يميناً حتى تعب." ص74.

من خلال عنوان القصة العاشرة (الموصل "العبارة... رحلة القط ميزو") يمكن التعرف على أن الحكاية تتناول كارثة غرق العبارة السياحية في نهر دجلة بمدينة الموصل عام 2019 التي راح ضحيتها العشرات من الأبرياء بسب الحمولة الزائدة. وتمر الحكاية في مقطع قصير منها على فترة احتلال الموصل وما كان يعانيه الناس بمن فيهم بطل القصة (يزن) وعائلته. وبعد تحرير المدينة من  قبضة عصابات داعش الإرهابية يقرر الأب اصطحاب العائلة إلى الجزيرة السياحية في غابات الموصل. وكانوا ذلك اليوم على متن العبارة عندما غرقت، فسقطوا جميعاً (الأب ويزن وأخته نسرين) في النهر ومعهم الدمية (ميزو). وهذه القصة هي الوحيدة التي تختلف نهايتها عن بقية القصص حيث انتهت بنجاة العائلة كاملة من الغرق بعد جهد كبير. لكن الفقرة الختامية لم تخلو من حس تراجيدي: "... حين جلسوا أمام التلفاز، عرفوا أن أكثر من مئة وعشرين روحاً قد زُهقت غرقاً." ص81.

تنتمي القصة اللاحقة إلى جنس أدب الديستوبيا، وهذا ما تقترحه العتبة الأولى للنص، العنوان (العراق – الفلوجة "وطن الغرباء" بعد مرور مئة عام على الاحتلال – الفلوجة عام 2103 . تتناول موضوع مجيء غرباء إلى بستان الجدة في مدينة الفلوجة ليسرقوا الطين من "قلب النهر" بالأتفاق مع السلطات الحكومية. وفي هذا إشارة إلى أن الأجنبي سوف يظل يسرق خيرات الأرض وبالتعاون مع الأنظمة الحاكمة حتى بعد قرن من الزمان. تنتهي القصة بتساؤل تطرحه الضيفة على أمها (الجدة): "أمي... هل صحيح أن المرأة العراقية كانت ترتدي في السابق قطعة قماش على رأسها أينما ذهبت، تسمى الحجاب؟" ص93.

القصة الأخيرة (كوبنهاغن "السفير وتماثيل الحب") تتحدث عن شيخ ستيني يعمل سفيراً للسينغال في الدنمارك. وهي أيضاً، كباقي النصوص، تتناول موضوع قمع الرأي والأضطهاد السياسي والنفي والإغتراب وماشابه. فهذا السفير رغم أنه يعمل في مهنة دبملوماسية مرموقة إلا أنها فرضت عليه فرضاً: "أرادوا إبعادي عن الاحتكاك المباشر بالطلبة، أفكاري لا تعجبهم..." ص97.  فينتهي به المطاف مصاباً بمرض نفسي إلى أن مات. ونعرف من خلال فقرة الخاتمة أن ما قرأناه كان عبارة عن كلمة تأبين يقرأها الطبيب والمعالج النفسي للبطل السيد (مامادو آمباكي): "وهو يقف عند قبره الذي أعدَّ منذ ساعتين تقريباً، والذي مازال ندياً." ص101.

ختاماً أقول إن مجموعة القصص هذه،  الصادرة عام 2019 عن (دار الفراشة للنشر والتوزيع)، قد تضمنت غالبية نصوصها على نهايات مفتوحة وتراجيدية. وكأنها في ذلك تحاكي الواقع الملغز والمرير للشخصيات في عالم تتفشى فيه ظاهرة الكره وتهيمن عليه الأوهام المقدسة. ليس فقط على الصعيد العراقي والعربي فحسب، بل على صعيد دول العالم الثالث أيضاً. يتبين هذا من خلال تنوع جنسيات الأبطال وتنوع الأمكنة (المدن).

 الحوار المتمدن