محاولة في فهم فكرة المهدي المنتظر (2)

 

(2-5)

(المهدي المنتظر عند الشيعة الإثني عشرية)

إختياري لهذا الكتاب في بداية مشوار الوقوف عن كثب على فكرة المهدي هو لمعرفتي المسبقة بموضوعية المؤرخ (جواد علي 1907- 1987م) وتجرده من التحيز الذي يقع فيه أحياناً بعض المؤرخين خصوصاً الذين يتناولون الشخصيات الدينية. حيث إن تناول الشخصيات الدينية من الجانب التاريخي المجرد باتباع المنهج الأكاديمي الصارم بعيداً عن هالة التقديس الأعمى أو القدح المؤدلج البغيض هو أشد ما يحتاج إليه القارئ العربي. أكثر ما يقتل الحقيقة التاريخية (إن وجدت) هو الأحكام المسبقة.

هذا الكتاب عبارة عن أطروحة تقدم بها جواد علي لنيل شهادة الدكتوراه في إحدى الجامعات الألمانية نهاية ثلاثينيات القرن العشرين. وقد تمت ترجمة هذا الكتاب من الألمانية على يد المترجم الجزائري د. أبو السعيد دودو بعد موت المؤلف.

يتحدث جواد علي في بداية الكتاب عن الإمامة عند الإثني عشرية، فيقول إنها: "وحاملها نفسه قد نصبهما الله وحدهما عن طريق نبيه. وسلطة الإمام تشمل الأرض كلها. فهو يحكمها بلا حدود، لأن الله وكل إليه أمرها، وكل ما يوجد فيها وفوقها، سواء أكان معدنا، أم غابة، أم حيوانا، برا أم بحرا، فالأشياء كلها ملك للإمام، وله الخمس مما يكسبه الناس من أعمالهم... وسيبقى هذا النظام قائما إلى أن يأتي زمان (الإمام المختفي)، وعندئذ سيتولى تسيير الأرض بنفسه ويوزعها بين جميع المؤمنين." ص13. وللتعريف بفكرة نواب الأمام يقول في صفحة 14: "ولما كان الإمام لا يستطيع أن يشرف على حزبه كله، فإنه يعين نوابا عنه في المدن والأماكن، التي توجد فيها طوائف شيعية. وكان هؤلاء النواب يسهرون على أمور هذه الطوائف، ويجمعون الخراج ويرسلون إلى الأمام ماتبقى منه بعد إنفاق الأموال المخصصة للشؤون الاجتماعية".

 ثم يستعرض أسماء المؤلفين الذين كتبوا في موضوع الإمام الغائب ونوابه الأربعة قبل وبعد الغيبة الصغرى وأسماء كتبهم فيدرج مئة وعشرين كاتباً، منهم من وضع أكثر من كتاب. لكنه يؤكد على أنه أكتفى بإيراد الرواية عند هبة الدين الشهرستاني وسير علماء الشيعة وذلك لأن: "ليس من السهل على العالم أن يجد طريقه عبر هذا الثراء من الحكايات الخرافية، ويستخرج منها القليل مما يمكن استعماله في دراسته." ص17.

ويتطرق في الفصل اللاحق إلى وضع أسرة آل النبي زمن الخلفاء فكانت: "السياسة المعادية لأسرة علي تتوقف على شخصية الخليفة، فإذا كان يتعطاف مع آل البيت، كانت لهم أوقات تكون فيها أمورهم على أحسن ما يرام. ولكن الخليفة، ليكون على ثقة من أمرهم، نقل مقامهم الرئيس من المدينة إلى بغداد، حيث تم إخضاعهم لرقابة صارمة. وكان على الأئمة الأخيرين أن ينتقلوا إلى مقامهم الجديد سامراء وأن يعيشوا فيها وكأنهم في سجن." ص64.

في ظل هذه الظروف العصيبة وساسية المراقبة الشديدة من قبل الخليفة المعتمد العباسي يموت الأمام الحادي عشر (الحسن بن علي بن محمد العسكري) مسموماً في عام 260ه، لتحدث أزمة كبيرة في صفوف الشيعة وأصيبوا بحيرة: "هل ترك الإمام الحادي عشر ولدا؟ وماهو مستقبل الشيعة من الآن فصاعدا؟ وتساءل الناس، إذا كان الإمام قد ترك ولد، فلماذا لم نر هذا الولد وأين هو؟... لقد أثارت هذه التأملات وجدان الشيعة وأدت إلى انقسام حركتهم، التي كانت قبل ذلك تعاني من الضعف، إلى اربع عشرة فرقة." ص66.

لكن هذه الفرق انحلت مع الأيام وبقيت فرقة رئيسية تؤمن بوجود ابن للإمام. يقول علي جواد في هذا الصدد: "تقدم لنا أول وأقدم كتب الشيعة الإثني عشرية، التي عالجت هذا الموضوع، مثل: إكمال الدين، الغيبة للنعماني، والإرشاد للمفيد، والغيبة للطوسي، كمولد للإمام الثاني عشر سنة 255ه أو 256ه. هناك مكان واحد فقط يرد فيه أن الإمام الحادي عشر قد كتب توقيعاً لأحمد بن الحسن بن إسحاق القمي سنة 254ه أنه قد ولد له ولد." ص67.

وهناك ذكر لتواريخ عديدة مختلفة يعتقد أن الإمام المهدي قد ولد فيها. أما حكاية ولادة المهدي فهي جاءت في أكثر من صورة مختلفة ومتناقضة أحياناً لكن المؤلف ينقل حكاية من المصادر الشيعية يقول إنها الأقوى: "لأنها تعود إلى شاهد عيان، هي حكيمة. أما الأخبار الأخرى فمصدرها سفراء وخدم الإمام الحادي عشر." ص72.

تقول الحكاية إن الأمام الحادي عشر كان قد طلب من عمته حكيمة بنت محمد بن علي بن موسى الرضا أن تحضر إلى بيته لأن هناك ولداً سيولد له هذه الليلة ويكون خليفة الله فوق الأرض، فاستغربت كيف يولد له طفل وليس له من بين نساء حريمه من هي حامل، فأجابها بأن نرجس (أحد أسماء أم المهدي)، وهي عبدة عتيقة، ولدته منه. ثم تروي تفاصيل رؤيتها للطفل المولود وذكره للشهادة وقراءته آيات من القرآن وتعداده أسماء الأئمة جميعاً: "إلى أن ذكر اسمه. وبعد ذلك أمر الأمام الحادي عشر بإحضار الطفل، فأحضر والحمائم تطير حوله. وأمر حمامة أن تطير إلى السماء فطارت الحمائم كلها..." ص70. وبعد خمس سنوات مات والده: "وخلع الله الإمامة على الفتي رغم شبابه، مثل يسوع، الذي تميز وهو في المهد بالحكمة الكثيرة... غير أن الخليفة قام بتحريات دقيقة عن الطفل، لأنه كان يعرف أن رجلا سيولد في هذا الوقت... وبذل الخليفة قصارى جهده في القبض على الصبي حتى لا يتولى منصبه فإذا لم يأخذ الإمام الجديد منصبه، فإن عليه أن يبقى متخفيا عن الأنظار، وإلا فإن الإمامة تصبح عديمة الأثر..." ص75.

ليغيب الإمام في غيبة صغرى تستمر لسبعين عاماً أستعمل فيها المهدي أربعة وسطاء معينين بينه وبين أتباعه ولا يعرف مكانه سوى هؤلاء النواب. أما في وقت الغيبة الكبرى فلا يوجد سفراء: "لأن المهدي يظهر بنفسه بين الحين والآخر." ص77.

ثم يحلل المؤلف موضوع السرداب الموجود حاليا في مرقد الأمامين العسكريين (العاشر والحادي عشر) بمدينة سامراء- تعرض المرقد لعمل إرهابي شنيع في 22 شباط من عام 2006م لتتفجر بعده الحرب الطائفية. يعتقد البعض مخطئاً أن الشيعة تقدس هذا السرداب لأنه المكان الذي أختفى فيه المهدي. لكن جواد علي يخلص إلى نتيجة مفادها أن الشيعة تقدس هذا المكان لأنه الجزء الوحيد الذي بقي من مسكن الإمام. ويؤكد كذلك على أن قضية الرجعة: "لسيت مذهباً دينياً، وإنما تقع في نفس المرتبة مع رجعة المسيح أو الدجال عند أهل السنة. فكما أن الاعتقاد برجعة هؤلاء الرجال الثلاثة ليس عقيدة ملزمة عن أهل السنة، كذلك لا يعرف الشيعة عقيدة دينية في الرجعة. ويختلف الأمر في الغيبة تماما؛ على الشيعي أن يعتقد بغيبة الإمام الثاني عشر، لأن العالم لا يمكن أن يكون بدون إمام." ص93.

ثم يتطرق المؤلف في الفصول اللاحقة إلى سير السفراء ونشأتهم والوضع السياسي والاجتماعي حينذاك في بغداد، حيث يقيمون، والكيفية التي كان يصل فيها الخراج للإمام من عامة الشيعة وكتابة التواقيع، وتطرق أيضاُ إلى بعض الذين أدعو أنهم وكلاء للمهدي، من بينهم الحسين بن منصور الحلاج. حيث أدعى الأخير أنه وكيل الإمام الغائب في عهد السفير الثاني سنة 296 ه: "وكان لايزال يثير النزاع، فكان على السفير الثالث عندئذ أن يسكت صوته." ص137. لكن فيما بعد لم يعد بحاجة إلى اتخاذ أي إجراء ضد الحلاج عندما أظهره أبو سهل إسماعيل بن علي النوبختي بمظهر الزنديق حيث: "نجح أبو سهل عند ابن داود، معلم الفقه السني. ففي سنة 297ه قدم ابن داود فتواه الشهيرة بتكفير الحلاج وحرمانه من حماية القانون." ص138.

ينتهي الكتاب بالحديث عن عودة المهدي ودولته الموعودة فينقل أكثر من سيناريو لهذه العلامات. ننقل هنا مختصر رواية واحدة ينقلها عن العلامة المجلسي في كتابه (بحار الأنوار): "... وهناك علامة أخرى نشوب الحرب بين الأتراك والروم (اليونان)... تتسع الحرب بصورة مطردة إلى أن تشمل في النهاية الأرض كلها. فيرفع رجل صوته في دمشق ويعلن عن تحول عنيف في مصير الإنسانية. بعدها يتنازع ثلاثة رجال من أجل الحكم، وفي الوقت نفسه يدخل ناس من الغرب بلاد الشرق ويقضون على مصر. والآن يستولي الأتراك على مدينة الحيرة، بينما يستولى الروم على فلسطين، ويظهر السفياني... يزحف السفياني من الغرب والخراساني من الشرق بقواتهما ويتنافسان على الكوفة من أجل الاستيلاء على هذه المدينة... وفي هذه النقطة من الصراع يرفع رجل يكنى اليمني الراية في الجنوب ويجمع حوله من احتفظوا في قلوبهم بشرارة من الإيمان. وبعد خسائر كبيرة ... وانتشار الكفر، واضطهاد الإيمان وعلامات أخرى كثيرة يتلقى الإمام المختفي الأمر من الله بالعودة إلى الأرض وإعادة الشريعة والحقيقة... ولن يستطيع أي كافر إخفاء نفسه، لأن الحجر، الذي يختفون وراءه، سيشي بهم نفسه. وتصبح كل البلدان تحت حكم المهدي، الصين، والقسطنطينية، ورومة وجميع ممالك العالم. ولن يكون هناك دين، لا المسيحية ولا اليهودية... تضيء السماء كلها بنور ساطع بحيث لا تكون هناك ضرورة للشمس ولن يستقر الظلام فوق الأرض... وبعدها يعيش الناس من غير أن تثقل كاهلهم الديون. ولن تهتز العلاقات الإنسانية لا بسبب الخصام ولا العراك، ستسود الأخوة الصافية والسلام الدائم الإنسانية جمعاء وتجعلها سعيدة." ص296 و ص297.

وينهي المؤلف البحث بتلخيص نتائجه في عدة نقاط منها تأكيده على أنه لم يبحث أفكار الغيبة إلا بوصفها ظاهرة تاريخية-عقائدية، وليس عقيدة دينية.

 

يتبع

 موقع الحوار المتمدن