مشاركتي في تحقيق ثقافي أعده الكاتب علي كاظم داود لجريدة المدى


  العنوان والمُساءلة النقدية

  بغداد .. مُشتركاً في نمط العَنوَنة الروائية


يتخذ العنوان موقعاً محورياً في العمل الأدبي، لا يصدر عن فعل اعتباطي أو بمحض المصادفة؛ ووصفه بـ "ثريا النص" يمنحه أهمية كبيرة في الرؤية النقدية؛ فهو الضوء الكاشف منذ لحظة التعرف الأولى على فكرة النص أو الكتاب.


من اجل ذلك شاع في الدراسات النقدية الاهتمام بما يصطلح عليه بـ "العَنْوَنَة" والذي يعالج العنوان، دلالاته وشعريته وارتباطاته بالنص ومدى نجاحه في تمثيل ثيمته. ومن بين النقاشات التي دارت حول هذا المصطلح، ما طرحه الدكتور "لؤي حمزة عباس" في صفحة "أنفي يطلق الروايات" على الفيس بوك وتلته آراء متعددة أغنت الموضوع ومنحته وجهة نقديّة أكدت دور الصفحات المتخصصة في الارتقاء بموضوعاتها عبر حوارات تتطوّر من خلالها الفكرة وتعدد سبل النظر إليها.
كتب د. لؤي حمزة: "أصبحت الإجابة على سؤال العَنوَنة في العمل الأدبي من بديهيات الدرس النقدي الذي منح العنوان ما يستحق من التأمل والمراجعة بوصفه عتبة مؤثرة من عتبات النص، لحظة أولى للتواصل والاشتباك، تدعونا للتفكير بما تخبئ النصوص من بواطن وما تؤجل من أسرار. طيّب، وماذا بشأن تداخل النمط في أكثر من عنوان روائي.. هل يقود نمط العَنوَنة في زمان ومكان معينين للتفكير بطبيعة الكتابة الروائية، والنظر إلى أهدافها، وما يشدّها من جواذب ومؤثرات؟ ذلك ما يدور في ذهني في اللحظة التي أتأمل فيها توجهاً شكّلت فيه (بغداد) مركزاً لإنتاج العنوان في أكثر من رواية عراقية راهنة: عجائب بغداد، أموات بغداد، مشرحة بغداد، فرانكشتاين في بغداد. ( للأعزاء: وارد بدر السالم، وجمال حسين علي، وبرهان شاوي، وعمل أخير أطلق عنوانه ولم ينشر بعد للصديق أحمد سعداوي)".
هو تأشير، إذن، لظاهرة اتسعت في الإصدارات الروائية، متخذة من الرمز المشترك، الذي اختار له د. لؤي حمزة "بغداد" مثالاً شهدت الرواية العراقية استثماره على نحو واسع. الروائي "أحمد سعداوي" أضاف عناوين اخرى استخدمت الرمز نفس بقوله: "ليس هذا فقط وانما (جريمة في بغداد) ـ حسب بعض الترجمات ـ لاجاثا كريستي، و(الجريمة، الفن، وقاموس بغداد) لعلي بدر، و(بريد بغداد) لخوسيه ميجيل باراس. شخصياً، مفردة بغداد في روايتي غير المنشورة بعد، مفردة محورية واساسية، ولا اخفي اني فكرت ـ بعد تدافع البغدادات هذه السنة ـ بتغيير العنوان حين ادفع الرواية للنشر، ولكن المشكلة ان عنوان (فرانكشتاين في بغداد) صار مشهوراً، وهناك فصول مترجمة من الرواية الى الانكليزية، ويتم التعامل معها على انها عمل محسوم".
إن مشاركة أحمد السعداوي تحيل الحوار إلى المشغل الشخصي للكاتب، وتقف عند واحدة من تجاربه في مساءلة عنوان عمله الروائي. عاد د. لؤي للتأكيد على فاعلية المُوجهات في إنتاج العَنوَنة، بقوله: " أفكّر في زمنية الانتاج ومكانيته، داخل لغة واحدة، بما يمكن أن تشكلا من جاذب صياغي، أو موجّه من ضمن موجّهات لإنتاج النمط. وأفكّر أيضاً: أن العنوان هو مناورة النص، لغزه، واحتياله، وأن تشكّل كلمةٌ ما نمطاً مركزياً للعنونة يعني أن نخفف من طبيعة المناورة النصيّة، ونقلل من شحنة الاحتيال، وهو ما يُدخل كثيرا من النصوص في دائرة لغز واحد، يقترحه الواقع بمؤثراته الفادحة".

الروائي ميثم سلمان رأى أن: "المسألة لها علاقة باللحظة التاريخية التي تمر بها بغداد. لحظة تغري الكاتب بتناولها، وتغري القارئ بمعرفة خفاياها. نحتاج لتأمل الروايات التي تحمل عناوينها مفردة بعينها ونرى إن كانت النصوص داخلة (في لغز واحد). هناك الكثير من العناوين احتوت على مفردة الحب مثلا، فهل تخضع نصوص هذه الروايات لمحددات هذه الفكرة؟".
عاود احمد سعداوي المشاركة في الحوار ليضيء فكرة أخرى بإضافته: "لا اعرف ان كنت توصلت الى نتيجة محددة. ولكن تبقى مفردة (بغداد) فاعلة ضمن بنية العنوان نفسه، كما ان العنوان بمجمله لا يحمل قيمة بذاته خارج اطلالته على النص وترابطه الدلالي معه. واذا تتبعنا تكرار مفردات محددة في عناوين الروايات سنجد الكثير. أتذكر هنا (القارئ البغدادي) للكاتب جبار ياسين ونزول طبعتها الايطالية الى الاسواق عشية غزو العراق في 2003، وكيف انها نفدت من الاسواق سريعاً واعيد طبعها لمرات بسبب ارتباط العنوان او مفردة منه (بغداد) بحدث اعلامي كبير. ومتابعة لهذا النقاش ـ والكلام لسعداوي ـ أقول: ربما تكون المفردة في العنوان ومن خلفها النص نفسه يستجلبان الإثارة القادمة من الميديا التي تعطي تفسيرها وقراءتها للواقع، كبديل عن التفسير الروائي والإثارة الجمالية والمعرفية الخاصة بفن الرواية".
عاد بعدها د. لؤي ليؤكد: "بأن نمط العنونة المشترك لروايات عدة يُدخلها ضمن أفق انتظار مشترك.. الروايات التي يدخل الحب ضمن عنواناتها تعمل على تهيئتنا لموضوع بعينه.. ترى هل تعمل روايات (بغداد) على الفرضية نفسها؟".
وعن هذا السؤال الأخير كتب ميثم سليمان: "كجواب سريع أقول نعم ستدخلنا الى افق بعينه، لكن مهمة الراوي هي بتناوله المختلف للموضوع، ورسمه خريطة بناء الهيكل العام لتقديم الموضوع، ومعالجته المميزة وفق رؤيته الخاصة إلخ... هذه الأمور هي ما يميز رواية عن أخرى وليس فقط جوهر الموضوع".
الروائي وارد بدر السالم شارك في اغناء الحوار، كاشفاً وجهاً من وجوه قلق الكاتب ازاء العنوان وهو (يسترخي في تاريخيته النصيّة) حسب تعبيره: " تغير عنوان روايتي أكثر من مرّة، فمن " القرية البوذية" إلى " صياد الهويات" إلى "بوذا بغداد" حتى استقر (عجائب بغداد) في اللحظة الأخيرة والحاسمة بطريقة مفاجئة بالنسبة لي". وقد أوضح أن " العنوان يُحيل الى عتبة مكان وتاريخ ضمنياً، لكنه يسترخي تماماً في تاريخيته النصية حينما يستقر عند عام 2006 منذ أول شريحة وضعتها في الصفحة الأولى عن الراحلة أطوار بهجت لأتبّث زمنية الرواية وأبعد تاريخية بغداد المتداولة بيننا وأقف على مسافة النص وهو ينمو منذ مقتل أطوار الى الصعود الزمني للمدينة الذي تعرفون كل حيثياته، عبر بوابة بغداد التي امتثلت لواقع الحال في زمن الاحتلال، يبدو لي ان العنونة المشتركة للروايات التي ذكرها الدكتور لؤي انطلقت من بؤرة واحدة ورؤية مشتركة لبغداد في زمن معين ووقائع معينة في (جاذب صياغي) منبّه الى الثقل الكبير الذي تمثله بغداد حضاريا ونفسيا" ..

في سياق هذا النقاش شارك أيضاً الروائي سعد سعيد حيث كتب: "مثلما يكون العنوان إضاءة أولى للنص ومدخلاً لفهمه أحيانا، فإنه يكون في أحيان أخرى وسيلة الكاتب لمحاولة جذب القارئ إلى نصه عن طريق إثارة فضوله وهذا من حقه طبعا ما دام هو نفسه من سيدفع ثمن اختياره إن كان غير موفق، مثلما سيفيده التوفيق فيه.. ولكن تبقى العنونة مشروطة بالانتماء إلى صلب النص نفسه, ولعل تأثر الكتاب العراقيين بما حدث طوال السنوات السابقة في بلدهم هو الذي يفسر لنا نمط العنونة المشترك لعدد من الروايات العراقية".
فكرتي التي طرحتها خلال الحوار لم تذهب بعيداً عن الأفكار السابقة، حيث اعتبرت ان هذا التوجّه أو النسق العَنوَنيّ ، ربما يمثل فهماً جيداً لما تصنعه "بغداد" اليوم، او في السنوات الاخيرة، من بروباغاندا لكل ما تضاف اليه.. طبعاً ليس القصد من ذلك اتهام الكاتب، لأنه حاول ان يجعل عنوان روايته مألوفاً وقابلاً للتسويق، لكن على روايته ان تقدم تبريراً مقنعاً لكي تحمل هذا العنوان. يأتي هذا النمط في سياق ظاهرة عالمية لربط العناوين برموز سابقة، من قبيل استخدام "كافكا، دستويفسكي، دافنتشي، وحتى ماركيز" ككلمات محورية في العناوين، وهذه الظاهر العالمية تخضع أيضاً لنفس المساءلة النقدية.