(دراهم الخلافة) للقاص ميثم سلمان استعادة التراث بلغة العصر

علي كاظم داود
في جريدة الصباح ليوم الاثنين 
24-9-2012 
القصة القصيرة، بوصفها فضاءً سردياً يسعى لإعادة تشكيل العالم، تتسم بقدرة عالية على تمثّل التراث، عبر قنوات نصّيّة، أو تناصّية، تستدعي الرموز التراثية لتساهم في انجاز محتواها المعنوي الذي تريد إيصاله للمتلقي. هذا مع ضرورة النظر إلى التراث الإنساني على أنه تراث سرديّ بالدرجة الأولى، وبالأصل، يحتفي بالحكاية بمختلف تجلياتها، حتى أنها تسللت إلى الشعر، فاستحوذت على جزء كبير من منجزه القديم، واستمرّت لتلتهم القدر الأكبر من الشعر الحديث. فمنذ الملاحم، التي تعد تنويعاً شعرياً، كانت الحكاية محتواها الأساس، بل ومثلت ـ بعمقها وثرائها ـ سبب خلودها أيضاً.
في هذا السياق، تستدعي "دراهم الخلافة" مجموعة "ميثم سلمان" القصصية الصادرة عن دار أزمنة في عمان 2012 ، التراث، إلى ذهنية القارئ، منذ لحظة التعرف الأولى عليها، عبر عنوانها الذي يحمل مدلولاً تراثياً جلياً. هذا العنوان يشير بشكل واضح إلى رمز تراثي سلطوي، "الخلافة" التي تربعت على مدى قرون طويلة على مجريات التاريخ العربي والاسلامي. كما يشتمل أيضاً على أحد لوازم القوة لهذه السلطة، "الدراهم" التي مثلما كانت رمزاً للترغيب والحشد وتكميم الأفواه وتوسيع نطاق القبول، تستدعي أيضاً المعادل الموضوعي لها، أي القمع الذي كانت الدراهم أحد وسائل إشاعته في المجتمع إبان عهود الخلافة.
بعض عناوين القصص في هذه المجموعة القصصية تضمنت مفردات تؤكد الوظيفة الاستعادية، هدف المجموعة الأبرز، ومنها: (ذراع الذاكرة، ملحمة الفيسبوك، القراصنة ما زالوا هناك، دراهم الخلافة). كما حملت بعض عناوين القصص دلالات زمانية أو مكانية، تقارب ذاك الهدف، لما للتراث من ارتباطات وثيقة بالزمان والمكان، فهما الفضاء الذي تنتحله الأحداث، ولا غنى لها عنهما، من قبيل قصص: (صداع مزمن، بستان السيد الحزبي، مدينة الصفيح). أما العنوانات الباقية فقد اختزنت دلالات موضوعية فقط، وهي: (مجرد لعبة، جينات النحس، تمرين في العمى، منظار، ميت بجثتين، الجبن الرومي).
أغلب قصص المجموعة تُبرز نزعة ميثم سلمان الاستعادية للرموز الماضوية، قريبها وبعيدها، بلغة حداثية، لكنها تبدو جلية في قصتين أكثر من غيرها، أولاهما "ملحمة الفيسبوك"، والتي تعلن عن ارتباطاتها الوثيقة بالتراث والحاضر معاً، عبر عنوانها الذي يجمع بين الملحمة، التي هي نتاج أدبي ضارب في اعماق التاريخ، خصوصاً بعد أن يتضح في متن القصة ان المقصود بها "ملحمة كَلكَامش" على وجه التحديد، وبين "الفيسبوك" الذي ستعمل القصة على استعادة الملحمة من خلاله، بوصفه أداة من أدوات العصر الحديث، ووسيلة تواصل اجتماعي افتراضي، سيتسع مداها داخل القصة، لتصبح أداةً للتواصل مع الماضي أيضاً.
ستتخذ القصة من التخاطب بالرسائل، عبر هذا الموقع الألكتروني، تقنية لبناء عالمها، حيث تفترض أن بَطلي الملحمة، "كَلكَامش وأنكيدو" قد تسنى لهما استخدام "الفيسبوك" واللقاء من خلاله ـ افتراضياً ـ مرة أخرى، في وقتنا الحاضر.
"كَلكَامش" الذي لن يصدقه أحد أنه هو نفسه صاحب الملحمة القديمة، سيكون في دار للعجزة، يلقن رفيقاً له لكي يطبع رسائله الموجهة إلى "أنكيدو". هكذا يصطدم التاريخ في هذه القصة بوسائل العصر، سيصبح حيالها عاجزاً ومنبوذاً، لن يأبه به أحد في ظل الانبهار العظيم بهذا البريق الذي احدثته التكنولوجيا. لهذا سنرى أنكيدو، الذي يرمز إلى عنفوان التراث وشبابه، يشكر هذه الوسائل ويشيد بها، حيث يقول: "شكراً للفيسبوك، الذي دلني عليك، يا له من اختراع عظيم، عبارة عن شبكة هائلة من الصداقات، لكن أين هي من اسطورة صداقتنا". وفي هذه الجملة الاخيرة، على لسان أنكيدو، انتقاد لتبدل القيم وتحولها إلى مظاهر فقط، فالاصدقاء صاروا مجرد أرقام و "بروفايلات"، لا يمكن مقارنتها بعظمة التضحية من اجل الصداقة، والتي تجلت في "ملحمة كَلكَامش" الخالدة.
تعمد القصة أيضا للتلاعب بمجريات الملحمة الأصلية، وفق قيم العصر الحديث وأخلاقياته السائدة في الغالب، فكَلكَامش قد استرجع عشبة الخلود من الافعى بعد قتلها واستخراجها من احشائها منقوعة بالسم، فكان لتناولها اثر الخلود لكنها لا تعيد الشباب له، وهو ما يرمز لطلب الحياة حتى لو كانت مغموسة بالذل والتعاسة. الموت إذن لن يتمكن منه، لكن ذلك سيدفع ولده للتآمر عليه بهدف الاستيلاء على تاج الملك، ما يدفع الأب، بالمقابل، للهرب متنكراً بزي امرأة. اما انكيدو فقد عاد للحياة بتوسط إله الماشية الذي حوله إلى تيس ليخرجه من العالم السفلي، حيث سيعاني من الذل والهوان على أيدي الرعاة، في إشارة إلى المتسلطين الظلمة، ما يضطره للهرب وثم الهجرة خارج الوطن حتى يستقر به الترحال في السويد. "ملحمة أنكيدو" هي البديل العصري عن ملحمة كَلكَامش، فبعد أن كانت هذه الأخيرة زاخرة بالأدب الرفيع والقيم السامية، ستغدو ملحمة أنكيدو مجرد قصابة ومحلا لبيع اللحم، يفتحه في بلاد الغربة باعتباره يمتلك خبرة في هذه المهنة، فهو من قطع فخذ الثور السماوي في الملحمة الأصلية. سيشي ذلك بالتبدل الذي طرأ على متطلبات الإنسان في هذا العصر، والذي همه ينصب في الحصول على الطعام والغرائز والحاجات البايولوجية الاخرى، بينما لا يقيم وزناً للقيم الانسانية التي حملتها تلك المدونة الخالدة عبر العصور.
تسمية الدكان ستشعل فتيل عقدة بارزة في القصة، وخلاف شديد بين الصديقين الأزليين؛ لأن كَلكَامش يطلب تغييره، لما فيه من استهانة أو نسخ لملحمته، بينما يرفض أنكيدو ذلك لأنها كل ما يملك في الحياة، ويتمرد على طلب مليكه القديم، ولا يأبه حتى بتوسلاته، وهو تمثيل لظاهرة التمرد على السلطة بكل أشكالها، حيث أن من أبرز سمات انسان هذا العصر النزوع اللامحدود نحو التحرر من كل القيود والأغلال والسلطات.
يستمر الخلاف بينهما إلى نهاية القصة، حيث يصف أنكيدو صديقه العتيد ـ بعد ذاك الإلحاح الشديد ـ بالغطرسة والجبروت الفارغ، ويوجه له اللعن ولكل الظالمين، ويقوم بحذفه من قائمة أصدقائه، وهذه ظاهرة أخرى تتجسد في القصة، فبمجرد ان يخسر المتجبرون سلطاتهم القمعية يصبحون موضع تقريع ومحاسبة على ما ارتكبوه سابقاً، ولن يبقى لهم أصدقاء.
القصة الثانية هي قصة "دراهم الخلافة" والتي تبدأ بقصة إطارية تصف معاناة زوجين في ظل انقطاع التيار الكهربائي، وهواجس الواقع العراقي المفعم بالموت. في عالم الحكي الداخلي لهذه القصة المستلة من يوميات عائلة عراقية ستنبت قصة مؤطرة تقترح الزوجة على الزوج الاشتراك في نسجها، ترويحاً عنهما. الا ان هذه القصة ستحكي عن رغبات هذين الساردين الدفينة، في التحصل على معجزة للخلاص من الوضع المأساوي الذي يعيشانه.
سيحكيان لبعضهما، وللقارئ، بالتناوب، عن راعٍ معدم، يعمل عند صاحب مزرعة جشع، ويحلم بأن يتزوج ابنته، التي هي الاخرى ترغب ـ في سرّها ـ بالزواج من سائس الخيول.
في مجريات القصة ستعلو أصوات الساردَين للتحكم الصريح بمجرياتها، فتقول الزوجة مثلا: "سأمنح هذا الراعي فرصة تحقيق أحلامه" ، وهو ما يؤكد على رغبتها في صناعة واقع تغيب فيه المعاناة التي يعيشانها، وتتحقق فيه الأحلام.
كالعادة، وكما هو في الأحلام الساذجة، يعثر الراعي على كنز، كيس مملوء بالدراهم الفضية، فيركض بها مبتهجاً نحو المدينة، معرضاً القطيع الذي بذمته للضياع؛ لأنه ظن أن سيحصل على ثروة عظيمة من بيع هذا الكنز الكبير. المفاجأة المخيبة ستكون عندما يكشف له الصائغ عن كون الدراهم مسكوكة من فضة رخيصة مليئة بالشوائب. يستمع ذاهلاً لنصيحة الصائغ التي تقول: "إن عثرت على مهرب سيشتريها منك، أو إذا رجع زمن الخلافة فستكون أميراً تحيطك الجواري". فينتهي به الأمر إلى بيع الدراهم لمهرب آثار، بثمن بخس، لا يساوي ربع قيمة القطيع الذي أضاعه في البرية. وهو ما سيمثل خيبة أخرى في واقع لا تفارقه الخيبات، حتى في القصص المتخيّل.
تعاود القصة لتذكيرنا بقصتها الإطارية، وتحكم الساردين بأحداثها، كما تبرز لنا نزاعهما حول وضع النهاية، فالزوجة تريد لها ان تكون نهاية وردية مفرحة، بينما تتهم الزوج بأنه يريد: "من الراعي السعي لإقامة دولة الخلافة، كي يستثمر الدراهم، وتغرق القصة بالدماء". هكذا يمكن النظر للتراث المكتوب في زمن الخلافة، التي كانت تدعي أنها إسلامية. ليالٍ حمراء ونهارات ملطخة بالدماء. وهو ما تستعيد كتابته عملياً بعض الجماعات المتطرفة، التي تنتهج العنف، وترفع الدين شعاراً زائفاً، بينما تستغل أموال البترول في الملذات الفردية والقتل الجماعي.
القصة الأولى عمدت إلى التناص، وفقاً لرؤية جينيت عنه، مع ملحمة كَلكَامش، لتقارن طبيعة التعاطي مع بعض القيم الانسانية بين الماضي والحاضر، ومن ثم تنتقد الانظمة التي تنتهج سلوكاً استبدادياً قامعاً. أما القصة الثانية، فتمثلت، وفقاً لبارت وكريستيفاً، نصوصاً تاريخية تصف بعض المظاهر في العصرين الأموي والعباسي بالذات، في اطار حكائي معيش، لتوجه نقداً لاذعاً للانظمة الحاكمة، والتي لا تأبه بمعاناة المواطن. فالقصتان، إذن ـ ومن ورائهما المجموعة القصصية ـ تصبان في سياق نقد النسق القامع في المجتمع، وتدعوان لحرية وكرامة الإنسان.