عندما تكون الرواية شهادة في محكمة - قراءة في رواية “في باطن الجحيم”

وأنت تقرأ رواية “في باطن الجحيم” للروائي سلام إبراهيم، الصادرة عن وزارة الثقافة ببغداد عام 2013 ، ستجد الكلمات المألوفة لوصف حجم الوجع أو القهر أو الإجرام أو الظلم و ماشابه عاجزة عن نقل بشاعة المشاهد التي تصورها الرواية. 



قراءة تفاصيل المشهد كاملاً ومعرفة تاريخ الشخوص وحيثيات الحدث هي وحدها كفيلة بتقريب فداحة الواقع الجحيمي الذي عاشه مؤلف الرواية أو (أبو الطيب)، الأسم الحركي للمؤلف في تلك الفترة. خذ مثلا هذا المشهد التراجيدي المفزع الذي يصور الكاتب فيه هروب أهالي القرى الكوردية ومعهم سلام إبراهيم وزوجته الكاتبة والناشطة السياسية ناهده جابر جاسم (أسمها الحركي في تلك الفترة هو بهار) خوفا من بطش الطائرات العراقية، “كانت بهار متألقة وهي تحمل طفلاً كرديا لقطته في السيل البشري المذعور الجارف. ظلت ترعاه حتى الغروب إلى أن هجمت عليها أمرأة كردية عشرينية، ونهبت الطفل من حضنها مطلقةً آهة ومرددة بصوت مذبوح: أوي دايكه (أخ يمة). كانت شبه مجنونة. راحت تشمه وتتلمس كل قطعة من جسده حتى أنها لم تشكرنا، ولم تسأل كيف عثرنا عليه؟! أبتعدت وهي تحملق في وجهه بصمت تاره وتضمه إلى صدرها وتشمه في أخرى. إلتفتُ نحو بهار فوجدتها تمسح دموعها متصنعةً التماسك، قلت مع نفسي: الله يساعدك!” الرواية ص299.

وما يزيد من لوعة هذا المشهد الإنساني هو أن ناهده جابر جاسم كانت ترى في ذلك الطفل أبنها (كفاح) الذي تركته في شباط من عام 1985 وهو في عمر الثالثة والمصاب بمرض الربو أي قبل ثلاث سنوات من تلك الواقعة لتلتحق بزوجها سلام والثوار في شمال العراق.

وفي مشهد بشع آخر نتعرف فيه على ما فعله رجال الأمن عندما قبضوا على العوائل الكوردية وأعتقلوهم في قلعة دهوك وهذه المرة ينقله لنا أحد أصدقاء سلام أسمه (يحيى) من اليساريين الذي سيق مجبرا كباقي العراقيين إلى جبهات القتال في الحرب العراقية الإيرانية. وهنا نتعرف على قضية أخرى إضافة لقضية الوجع العراقي الأزلي. قضية تشبه مفارقة لا تحدث إلا في بلاب العجائب، العراق. حيت ترى صديقين من توجه فكري واحد، كلاهما يساق عنوة إلى الخدمة العسكرية لكن أحدهما (سلام) ينجح بالالتحاق بصفوف أنصار الحزب الشيوعي الذين كانوا يحاربون الحكومة العراقية والثاني (يحيى) يبقى بين صفوف الجيش العراقي. كلاهما يحب العراق لكنهما يحملان السلاح ضد بعضهما.
يلتقي سلام ويحيى بعد عشرين سنة من الواقعة في أوربا حيث يسرد يحيى ما رآه في قلعة دهوك، “..سوف لا انسى ما حييت ذلك المشهد الذي جعلني أنحب بكتمان، وينتحب من حولي الجنود لائذين خلف أعمدة طارمة الطابق الثاني. كنتُ في غرفة القلم أرتب البريد وأرد على الرسائل حينما سمعتُ ضجة وصراخ وشتائم وبكاء أطفال ونساء يأتي من باحة القلعة، فتركت مابيدي وأسرعت بالخروج من الغرفة. ومن حافة سياج الشرفة الطويلة رأيت رجال أمن بملابس مدنية يصرخون مطالبين بخروج جماعة خالد. لا أعرف ماذا تعني جماعة خالد. حتى الآن، كانت الكتلة (العوائل) المحجوزة تتكتل ملتمة فتحولت إلى كتلة واحدة، محاولة حماية المطلوبين. عندها تجنن رجال الأمن، وأنهالوا على الكتلة ضرباً بالكيبلات المحشوة بالحصو، فتفتت الكتلة، وسط صراخ الألم، وسحبوا المطلوبين سحباً خارج الدائرة. طرحوهم أرضا، ووضعوا على أجسادهم الناحلة إطارات قديمة لمدرعات وجلسوا عليها لدقائق. بعدها راحوا يقفزون ضاعطين على الأحساد المختنقة وسط عويل أمهات وزوجات وأطفال من يُعصر ويخُنق تحت الإطارات… قتلوهم خنقاً تحت ضغط الإطارات أمام أعيننا. ولحظة لفظ أنفاسهم الأخيرة ضجت الزوجات والأمهات بالعويل والنحيب، والندب بترديد ما يشبه أشعار رثاء باللغة الكردية” الرواية ص282-283.
هذان المشهدان، مثلا، يحملان من البشاعة مما لا نجد ما يوازيه في اللغة من صفات جاهزة عامة نعلب فيها المشهد، فالشيطان يكمن في التفاصيل!

سلام إبراهيم في ثاني يوم الإصابة في قصف كيمياوي ٧-٥-١٩٨٧ خلف العمادية زيوة

لذا تعمد الكاتب أن يدون هذا النص بطريقة تسجيلية ولغة تلقائية مباشرة بدون حذلقات لغوية ولا ألعاب سردية ففي الواقعة مايكفي من التوحش الذي يفوق الخيال. وهو ما يؤكده الكاتب/الرواي/سلام إبراهيم/ أبو الطيب في متن الرواية، “تلك الرحلة العسيرة جعلتني أبتعد في الكتابة عن كل ما يمس الأساطير حيث تبدو بالمقارنة مع التجربة الحسية بلا ألم بلا مشاعر بلا حس!” الرواية ص. بل أنه تقصد لأن يدون تلك الوقائع بعفوية تامة وبعين كاميرا تلتقط المشاهد كما هي بلا رتوش ولا تزويق أو إنتقائية أو مونتاج واضعا المشاهد الخام كاملة أمام المتلقي. وهذا التخطيط يؤشره الراوي عندما يتوعد وهو في لجة المحنة، “لو كُتب لي النجاة من هذه المحنة، فسوف أجهر بحقيقة حواسي في التجربة دون أي رادع فكري أو أخلاقي أو أجتماعي أو قيمي..” الرواية ص. عليه لم أقرأ هذا النص على أنه رواية تقليدية للمتعة الأدبية بل للتعرف على تفاصيل جدبدة عن جريمة قصف نظام صدام حسين القرى الكوردية ومقرات الحزب الشيوعي المعارض للنظام آنذاك بغاز الخردل عام 1987 وغاز الأعصاب بعدها بسنة. تأتينا هذه التفاصيل والمشاهد المروعة على لسان كاتب روائي مهم كان من بين الضحايا. فرغم الجو السوداوي الذي يعم النص إلا أن القارئ لا ينفر منها لأنه يريد معرفة المزيد من الحقيقة وهذه التوق للمعرفة هو مصدر المتعة.
كتب إبراهيم رواية (في باطن الجحيم) بطريقة الفلاش باك حيث يبدأ السرد في عام 2007 أثناء متابعة محاكمة صدام حسين وأعوانه على ما أقترفوه في جريمة الأنفال. يكون الرواي حينها جالسا في بيته بالدينمارك فرحا برؤية صدام ومعاونيه في القفص. ثم يرجع بالتاريخ ساردا سيرته الذاتية المتعلقة بتلك الكارثة كما لو أن الرواي يدخل إلى قاعة المحكمة كشاهد عيان. فيقدم للمحكمة/لنا نصاً مدعوماً بالرسائل والصور والأسماء الحقيقة، ويعرض مشاهدا لا تفي كلمات الألم ومشتقاتها بغرضها العاطفي لوصف شدة قسوتها. حيث لا تجد في القاموس وصفا جاهزا شاملا يمكنه أن يزيح غبار الآيدولوجيا المتراكم على ذهنك، كي تسمو روحك الإنسانية وتتطهر من الاحكام المسبقة لتتآلف مع أخيك الإنسان ضد الشرور. وهو ما سعت له هذه الوثيقة التاريخية المهمة. فهي ليست مجرد شهادة في محكمة ضد الدكتاتور بل هي مدونة تسعى لأن تقودك بقوة إلى لحظة إنسانية خالصة تنتصر فيها للمظلوم وتحاكم الجاني بصرف النظر عن عرقه أو دينه أو توجهه الفكري. أتمنى أن تكتب بذات الطريقة شهادات كل ضحايا الموت الباذخ الذي لم يكف عن نخر هذه البلاد على يدي أزلام النظام البعثي أو الاحتلال الأمريكي أو الجماعات الإرهابية أو المليشيات أونظام المحاصصة الطائفي الذي يحكم العراق حاليا.

المقالة منشورة في موقع 

الناقد العراقي