مشاركتي في التحقيق الثقافي الذي أعده الشاعر صفاء ذياب لجريدة الصباح

حمى الكتابة والانتشار أدت إلى ازدهار الرواية العراقية 


حين يكون القاص روائيا


عرفت الرواية العراقية منذ خمسينيات القرن الماضي من خلال نماذج قليلة، وتم تكريس هذا الجنس الأدبي بشكل واضح مع الستينيات بصدور روايات مهمة مثل (النخلة والجيران) لغائب طعمة فرمان، و(الرجع البعيد) لفؤاد التكرلي، وغيرها من الروايات. لكن الملاحظ خلال تلك الفترة انشغال السرد العراقي بالقصة القصيرة، فبرز كتاب مهمون أمثال محمد خضير ومحمود عبد الوهاب
وعبد الستار ناصر وغيرهم من القصاصين الذين كان جلَّ همهم العناية بالقصة القصيرة وتطويرها.
ربما لم يغير توجه القراء والسوق والاهتمام بالرواية من الطريق الذي رسمه بعض القصاصين لأنفسهم، إلا أننا نرى تحول عدد كبير من القصاصين لكتابة الرواية، وتبنيهم المشروع الروائي مقابل انحسار واضح في القصة القصيرة، وهو ما جعلنا نتساءل عن أسباب هذا التحول، وما الذي سيحل بالقصة القصيرة بعد سنوات قليلة، وما العلاقة بين هذين الجنسين؟ في الوقت الذي يؤكد فيه غالبية النقاد على وجود آليات مختلفة بين القصة القصيرة والرواية

بناء واحد


اشتغل بعض الكتاب على القصة القصيرة والرواية في آن واحد، منهم القاص والروائي محسن الرملي الذي يقول إنه لم يتحول من القصة إلى الرواية "لأنني كنت أكتبهما معاً منذ البداية، لكن القارئ تَعرّف عليّ أولاً كقاص بسبب أسبقية نشر القصص القصيرة في الصحف والمجلات ومن ثم جمعها في كتب، وهذا أمر طبيعي، لأن المجازفة بنشر قصة قصيرة أهون من المغامرة بنشر رواية وأقل تكلفة للكاتب وللناشر وللقارئ من حيث الجهد والوقت والمال". للرملي خمس محاولات روائية قبل نشر روايته الأولى، يسميها: تجارب أولية أو تدريبية أو ناقصة أو غير ناضجة لم يقتنع بصلاحيتها للنشر، و"حسناً فعلت بعدم نشرها، كما أنني ولغاية الآن أتردد في نشر رواية أكتبها أكثر من ترددي في نشر قصة أو مجموعة قصصية". أما عن العلاقة بين القصة والرواية، فيرى الرملي أن كليهما، في الأصل، ينبتان من بذرة الحكاية أو كلاهما (قصة)، والفرق الأولي الظاهر بينهما يتعلق بالشكل وهو أن إحداهما قصيرة والأخرى طويلة، ثم تأتي بعد ذلك العناصر الأخرى والمتشعبة بتفاصيلها الخاصة بكل جنس ومتطلباته من حيث طبيعة التقنية والأسلوب والشخصيات واللغة والرؤية وغيرها. وفي غالب الأحيان تكون الرواية مجموعة من القصص القصيرة المتلاحمة عبر فن (التلصيق) حسب تعبير ماركيز. "كنت ومازلت أكتب كلا الجنسين القصة القصيرة والرواية، وكما هو معروف لدى جميع الكتاب، فإن المضمون هو الذي يفرض أو يقود نحو اختيار الشكل المناسب له".


فنون تتزاحم



الكاتب محسن الرملي
الأمر نفسه مع القاص والروائي سعد محمد رحيم، الذي دخل منطقتي القصة والرواية معاً، "بالأحرى هما عندي منطقة واحدة.. كلاهما ينتمي للعائلة السردية، لجغرافية السرد، وكلاهما يشترك بعناصر رئيسة؛ الشخصيات والزمان والمكان والوصف مع الحبكة والعقدة والحل، الخ. وهذه العناصر، لا سيما الثلاثة الأخيرة منها، تعرضت للتفتيت وجرى اللعب بها وتحويرها وتجاوزها عند كتّاب الحداثة". ويضيف رحيم: الاشتراك بالعناصر لا يعني أن القصة رواية مختزلة وأن الرواية قصة ممطوطة، هناك من النقاد من يرى الفرق فقط في طول الشريط اللغوي، "أعتقد أن الفرق أيضاً في كيفية تناول الموضوعة السردية، في الرؤية إلى العالم، في الأسلوب وزاوية النظر. في التعامل مع اللغة. وهذه مع غيرها مسائل دقيقة ليس من السهل تأشيرها.. لكن الروائي الحاذق يدركها بالحدس، بالمران، بمعرفة قوانين الصنعة الروائية واستبطانها".
الرواية مغرية، بالنسبة لرحيم، أرض واسعة حرة ومفتوحة يمكنها استضافة أنواع وأشكال مختلفة. ليس لها قالب أو قوالب محددة، أو قواعد نهائية، بل إن الروائي البارع يستطيع ان يبتكر قواعد جديدة لها. أحياناً تغدو كتابة قصة قصيرة جيدة أصعب من كتابة رواية. القصة مملكة فن بامتياز. غير أن الرواية بحاجة إلى ثقافة أوسع.. إلى رؤية أعمق وأنضج، إلى النفس الطويل.. إلى الصبر وإلى القدرة على التحكم بمساحات كبيرة تتعلق باللغة والتكنيك والتجربة البشرية والتاريخ والفلسفة، الخ. "مذ قرأت أول رواية انتابني هاجس مؤداه أن روائياً يسكنني.. كان ذلك حتى قبل أن أقرأ أية مجموعة قصصية. واليوم يزاحم القاص فيّ الروائي. لم أعتقد يوماً أن للروائي مكانة أعلى من مكانة القاص. ويحزنني أن قصاصين عراقيين ممتازين اخذوا يهجرون منطقتهم إلى منطقة الرواية التي ليسوا بارعين جداً في إدارتها بحذاقة وروح إبداعية عالية".

جداول حكائية

من جانبه يشير ميثم سلمان، الذي بدأ قاصاً ومن ثم انتقل لكتابة الرواية، إلى أنه باستثناء تجارب قليلة لكتاب مهمين سخروا جُلًّ منجزهم الإبداعي للقصة القصيرة كبورخيس ومحمد خضير والكندية أليس مانّرو والأميركية ليديا ديفس، يمكن القول إن رغبة القاص بكتابة الرواية تتعلق بحاجته لمساحة سردية واسعة كي يروي حكاية متشعبة الأحداث والرؤى، ترصد هذه الحكاية حياة الشخصية المحورية في مرحلة تاريخية ما بكل تعقيداتها السياسية والاجتماعية بشكل فني يختلف عن المنهج الأكاديمي للمؤرخ. وهذا ما لا تتيحه مساحة القصة القصيرة، ليس بسبب القصر فقط، بل بسبب الاختلاف البنيوي في طبيعة العناصر السردية المكونة للقصة القصيرة. أما عن العلاقة ما بين القصة القصيرة والرواية فلا يميل سلمان إلى تشبيهها بعلاقة الغرفة والبيت (القصة هي الغرفة والرواية البيت)، إذ إن هذا التشبيه يجعل من الرواية عبارة عن مجموعة قصص مختلفة، مثلما يكون للبيت عدة غرف تختلف الواحدة عن الأخرى بأثاثها وترتيبها، "في رأيي أن الرواية نهر طويل. أما القصة القصيرة فهي جدول صغير. لحظة الكتابة ولحظة القراءة تختلفان في الشكلين السرديين. في الرواية يمكن قراءة عدة حكايات قصيرة متنوعة تشبه الجداول الصغيرة التي تنبع من أرض مختلفة بطبيعتها وعمقها, لكنها تحمل نفس النكهة وتصب (الحكايات/الجداول) في مجرى واحد لتغذي الحكاية الرئيسة وتعين القارئ على فهم تحولات الشخصية الأساسية والشخصيات الثانوية. أما في القصة القصيرة فلا نقرأ إلا حكاية وحيدة ترصد تحولات الشخصية الأساسية".

غاية الانتشار


ويرى القاص والروائي حسن البحار أن القصة والرواية تحاوران العالم في أنماط مختلفة عن باقي الأجناس الادبية الأخرى، وكأنهنَّ الجوهر الأساس الفاعل في تفادي الصعوبات المتعلقة بتعريفات محصورة تنتشر بسرعة بين المجتمعات الباحثة عن التطور. فصار لزاماً على الكاتب المتمرس نقل هذه الزوايا بطريقة معروفة الأدوات عند القاص ثم الروائي، "زد على ذلك في عصرنا هذا الانتشار صار غاية لا يمكن تجاهلها، فمن أجل هذا يتحول القاص أحياناً إلى روائي لا لشيء إلا لأن الرواية كما يبدو هي الأكثر رواجاً في عصرنا الحديث". ثم هناك بعض الكتاب الذين يتحسسون في نصوصهم القصصية أنها قابلة للتفكيك، ثم دس الأفكار التي كانت مضمورة الظهور داخل القصة لتكون رواية. وقد برزت من أجل هذا مسميات الرواية القصيرة والمتوسطة والطويلة. بشكل عام القصة كما الرواية مغامرة صعبة الخوض فيها بسلام، ولكن هي رغبة من القاص في الخوض بهذه المغامرة وهي ليست حكراً على أحد ما دام من يكتبها يسير تحت قانون التصنيف الأدبي. ويضع البحار تصورا على ميول بعض القصاصين لكتابة الرواية، "أولها: إن الرواية قادرة على إطفاء حمى الكتابة عند القاص الذي يجد في نفسه القدرة على كتابتها. وثانيها: الانتشار، وهذا الأخير ليس بالشيء الهين، بل هو التفكير القوي الذي يدفع بالقاص إلى الاهتمام جديا بكتابة الرواية ببعدها الاجتماعي والسياسي والنفسي والتربوي والتدويني.