Review by Alesbuyia Magazine, Iraq

قشور وطــــن



الرواية العراقية ما بعد التغيير

«أحلم بالخلاص من كل الأقنعة التي تراكمت على سحنتي... إسمي ليس اسمي... وطني ليس وطني... مهنتي ليست مهنتي... بيئتي ليست بيئتي... لغتي ليست لغتي... حسبت، بلجوئي إلى منفاي المتجمد، أنني سأنهي سنين التهميش والعوز التي عاثت بحياتي. لم أكن لأصدق أن كندا ستضاعف من تلكؤ مسيرتي... اللغة ضاعفت منفاي وأضافت قشرة جديدة على جلدي. قشرة تتصلب مع الوقت لتغدو قناعًا أعجز عن إزاحته.» إنها محنة عراقية بامتياز... صورٌ باتت مألوفة «عراقياً»، البحث عبثاً عن الهوية، وأسئلة باتت أجوبتها أكثر مرارة، وأشد ضبابية نتلمسها في رواية «قشور بحجم الوطن» للعراقي ميثم سلمان الصادرة مؤخراً عن دار فضاءات - 2012
يحاول ميثم سلمان الاهتداء إلى السحنة الأصلية للإنسان العراقي، إنسانية الإنسان قبل أن تتعرض للتشويه، طبيعته التي ولد عليها، من خلال إزالة طبقات تراكمت على كيانه الإنساني، أخذت شكل الأقنعة. أقنعة لم يخترها، بل فُرضت عليه منذ قرون، لتحيله إلى مسخ، أو إنسان مزيف...» طبقات من القشور المزيفة تتراكم على ملامحي فضاعت سحنتي الأصلية». هكذا يحمّل المؤلف بطل روايته «محمد أو حسين» هذه المهمة المريرة ليكشف لنا أنه ما مِنْ حدث تاريخي، سياسيًّا كان أم دينيًّا شهده العراق إلا وأضاف قناعًا أو قشرة إلى كدس الأقنعة التي صارت تثقل كيان الإنسان العراقي، لتمنحه شكلاً آخر يتماهى مع الحالة الآنية المفروضة عليه من قبل سلطة جديدة أو قانون جديد: «بحثي عن الملامح الأولى وتقشير الأغلفة المتراكمة على جلدي لا يتقاطع مع إيماني بالإنسان الكوني، بل هو بحث لتحديد هيئتي بين الآخرين ليس إلا. هي فقط لمعرفة صبغتي الحقيقية بإزالة ما تراكم على وجهي من صبغات. هل أنا عربي أم مسلم أم عراقي أم كندي؟ هل اسمي محمد أم حسين أم «مستر كابي» كما ينادونني؟ في كندا يشعر بطل الرواية أن قشرة الإرهاب والتخلف باتت الأكثر ظهورًا على سحنته، عربي، مسلم، وافد، لاجئ، وغيرها من القشور التي كانت تجتمع منصهرة في قشرة واحدة صار يتحسسها من خلال نظرة اشمئزاز خاطفة يرمقها به ابن البلد الأصلي. فهناك من «يصر على أن الدين هو الهوية. وبهذا يضيف قناعًا آخرَ على وجهي... كيف لي إزاحة كل تلك الأقنعة وإظهار جوهر ملامحي الأصلية؟»... ولكن، كيف لبطل الرواية الوصول إلى هدفه وهو الذي أدمن لعبة ارتداء الأقنعة مجبرًا منذ أن دفعته الحرب إلى الفرار وارتداء قناع شقيقة الأكبر «حسين» مدرس التاريخ المتوفى بسبب مرض عضال.
صراع بطل الرواية في محاولاته المريرة لخلع أقنعة بات يعرفها ويعرف تتابعها بدقة، يدله إلى القناع أو القشرة الأكبر، العراق، بلده الذي صار قناعاً يصعب خلعه؛ بلد بات همًّا ثقيلاً يجثم على صدر الإنسان العراقي المغلوب على أمره دائماً «كيف يمكنني مسح صورة العراق المشوهة من رؤوس البعض. تلك التي يرسمها الإعلام المضلل؟ كيف يمكن إثبات أن الشعب العراقي، منذ الأزل، ضحية تتنازع عليها الدول، لا سيّما الجيران: عرب، فرس، ترك؟... العراق مثل فتاة مغتصبة تناوب عليها الجميع لإذلالها وانتهاك حرمتها والتمتع بمفاتنها؟»
 البحث بين الأقنعة عن هوية
وهكذا يُدخِل المؤلف قارئ روايته إلى عالم الاحتلال الأميركي ليسمعه أزيز الرصاص ودوي الانفجارات وعويل النساء واستغاثات الأطفال، من خلال صور متلاطمة؛ نشم من خلالها رائحة الدم العراقي الساخن... من هناك، من كندا، من المنفى، كان البطل يراقب «الجحافل الأميركية ومعاونيها من الدول الأخرى وهي ترج اليابسة والماء والجو بزحفها المهول نحو الوطن. أتسَقط أخبار البلاد المصهورة بحرب جديدة. قرروا لها أن تكون قاصمة، فقد عزموا على إسقاط الطاغية فعلا.» إنها صورة العراقي المنفي أو المغترب الذي عاش حالة امتزاج الفرح بالخوف وهو يتذوق عن بعد مرارة وهلع حالة احتلال بلاده... احتلال البلاد عاصفة هوجاء اجتاحت رأسي. والأكثر هيجانا منه هو تيار الموت العاصف الذي حصل فيما بعد. صار صباح العراق لا يحل إلا ببركان يحصد الأبرياء: ذبح، تفخيخ، خطف، تعذيب، اغتيالات، اعتقالات، سرقات، تخريب، ظلام، إعدامات، وغيرها من مظاهر جعلت البعض من العراقيين يتنكر لعراقيته.»
إن أقسى قشرة يمكننا تلمسها في رواية ميثم سلمان، هي تلك التي تشكك في جذور الإنسان العراقي وحقيقة هويته، ليكون السؤال أكثر اتساعاً والجواب أبعد منالاً... «هل أنا عربي؟ أنا لست رافدينياً إذن!» هذا هو السؤال الأكثر جدلاً الذي تطرحه الرواية؛ سؤال يجعل رواية ميثم سلمان مختلفة قليلاً عن طبيعة أغلب الروايات العراقية الصادرة بعد الاحتلال الأميركي للعراق... سألت أبي مرة عن أصل جدي الأول، قال: «هو عربي قح، جاء من جزيرة العرب». قلت: «يعني أنه غريب على أرض الرافدين!» قال: «الزمن يمحو الفوارق ما بين الأصلي والوافد.» إشارات لا تخلو من همس عميق يحاول أن يفهمنا بأن العراق بلد محتل منذ زمن طويل، وما الاحتلال الأميركي إلا حلقة من سلسلة احتلالات متراكمة، قد لا تنتهي... «هل جاء جدي فعلا مع الفاتحين العرب؟ أم أنه من القبائل العربية القليلة الساكنة أرض الرافدين؟ أم أنه من السكان الأصليين الذين أجبروا على تغيير ديانتهم تحت حد السيف، ورضخوا، فيما بعد، لضغط الواقع لينضموا إلى قبيلة عربية وافدة للحصول على مكاسب اجتماعية؟»... ثم يصل إلى نتيجة أشبه باعتراف مرّ قد يكون مقنعًا للقارئ... «أنحدر من نسب عربي وليس رافدينيًّا، يكرس هذا تحدثي بلغة الفاتحين وتدين قبيلتي بدينهم.» أي إنه يعترف بأن نسبه ودينه ولغته ما هي إلا أقنعة يرتديها فوق سحنته الأصلية... إن حالة التشتت والبحث غير المجدي التي يعيشها بطل الرواية، واهتمامه الكبير بدواخل النفس البشرية، ونضاله من أجل إظهارها تحت الشمس من خلال إزالة القشور أو الأقنعة، قد أصابه بالإحباط، وتلبسه الشعور باللاجدوى، فيصرخ منتفضاً على واقع يراه مرًّا... «متى أعيش مثلما أرغبُ ولو ليوم واحد؟... أعلنت ساعة الصفر لثورتي على كل ذاك الزيف. قررت الخلاص من تراكمات مساحيق التجميل ومراعاة المجتمع وما يشبهها من تحفظات.» وما ثورته تلك إلا إيماناً بالانتحار: «هاجس الانتحار ما فارقني قط، لكني كنت أطرده لحظة التنفيذ.» وتحت تأثير هاجسه هذا، يعد له كأسًا من السم بعد أن يتجمل ويرتدي ثيابًا مريحة نظيفة... يرفع كأسه عالياً ليشرب نخب عذاباته، فيصيح بصوتٍ رجَّ أركان العمارة التي يسكنها: «نخب أخي حسين... نخب العراق المدفون بالقشور... الأرض المغتصبة... الهجرة الدائمة... تلاقح الأقنعة... تشظي وجهي... وداعا أيتها اليقظة القاسية...» إلا أنه لم يمت!

http://www.alesbuyia.com/inp/view.asp?ID=30564