قشور بحجم الوطن: كينونة اللغة





بقلم الناقد ناظم عودة


عندما شرعتُ بقراءة هذه الرواية، شعرتُ بشيء من التردد في قراءتها، لأنّ كلمة الوطن باتت تُستَعْمَلُ في سياق إنشائيّ بارد، يفتقرُ إلى حرارة 

العاطفة السامية التي تتضمنُها هذه الكلمة المقدسة. لكنْ عندما تجاوزتُ الصفحات الاستهلالية الأولى، لم يعد بوسعي التراجع عن المواصلة. وفي كلّ صفحة، كنتُ أعثر على طريقة ميثم سلمان في السرد، التي تعرفتُ عليها من خلال ما يكتبُه في صفحته في الفيسبوك. إنها طريقة ساحرة، تطرحُ موضوعاتها بأسلوب فيه الكثير من الطراوة والمرح مازجاً بين السخرية والجدية بطريقة التورية تارةً والكناية تارةً أخرى. ومفهوم الوطن، في هذه الرواية، ليس مفهوماً تجريدياً وإنما هو مجموعة تجارب واختيارات عاشها الساردُ في شطر حياته الأول، ويعيشها الآن في كندا حيث استقر به الحال. إنه مفهوم مفعم بالحركية، ويتمتع بحساسية عالية تَظهرُ تجلياتُها في أشياء صغيرة وكبيرة على حدّ سواء. وهكذا تتشكلُ صورةُ الوطن، من خلال حياة كل فرد من أفراده، فالجزء يشكّلُ صورة الكلّ، والكلُّ يشكّلُ صورة الجزء كذلك.
تطرحُ، هذه الرواية، موضوعة الهوية من خلال اللغة. معاناة مهاجر عراقيّ إلى كندا مع اللغة، وشعوره معها بغربة كبيرة. ومن خلال هذه الغربة، تتحفّزُ كلُّ مكامن الشعور بالهوية، فيستعيد الساردُ تاريخ حياته السابقة. يتزامن ذلك، مع دخول القوات الأمريكية بغدادَ. ومن خلال الأسئلة التي يطرحها السارد عن مفهوم الهوية ما بين الزيف والحقيقة والشك واليقين، يستعيد رحلةَ الشقاء للإنسان العراقي ما بين قمع السلطة، والحروب العبثية، وقسوة التقاليد وزيف المفاهيم الثقافية.
إنّ حالة التشتت في الهوية، ليست حالة تخلقُها حياة المهجر، وإنما هي حالة متأصلة في المجتمع الأصلي نفسه الذي يمارسُ إكراهات لا حصر لها على أفراده على نحو يعمّق حالة الاغتراب وتشتتِ الهوية. فإكراهات الحرب جعلته يتقمّص هوية أخيه الميت في مرض القلب، ويمثّل شخصيته، ويمارس أدواره باسم ليس اسمه الحقيقي، وطريقة في الكلام واللغة ليست طريقته. وإكراهات الأب تعمّق حالة الكبت لديه. وإكراهات مدرّس التاريخ تعمّق حالة القمع ومصادرة الرأي وفقدان الحرية.
ومن خلال، هذه الرواية، نعرف أنّ الهجرة ليست حلاً نهائياً، وإنما بداية انفجار الأسئلة والمقارنات والمفارقات، وظهور المكبوت على نحو قد يعيق اندماج المهاجر في مجتمعه الجديد. فضاء المهجر، قد يتيح لك أنْ تستخرج ما لديك من أسئلةٍ، ويساعد عقلك على الانعتاق من سجن مفاهيم الماضي، ويحرر روحك وجسدك من الخوف، لكنه في مقابل ذلك يزرع في طريقك العديد من الألغام التي ربما تتمثل في كلمة واحدة، أو جملة عابرة (المرأة العجوز الراكبة في التاكسي مثلاً) أو تصرف جنوني (الهندي المتسول مثلاً). كل هذه الحوادث الصغيرة، في الرواية، هي بالنسبة للسارد ذات تأثير كبير.
لا تخلو الرواية، من التعبير بالترميز والصورة، كما في المقابلة بين ولادة المرأة في سيارة التاكسي ودخول القوات الأمريكية بغدادَ وسقوط تمثال الدكتاتورية. فالوضع الجديد، ومفهوم الديمقراطية التي روّج لها الاحتلال الأمريكي، هو مفهوم وُلدَ في غير مكانه ملوّثاً المكان بالدم كما هو الحال في ولادة المرأة التي لوثت المكان الخلفي من السيارة. وكذلك، علاقة الحب الحقيقية التي نشأت بينه وبين امرأة عبر الانترنت، والتي اكتشف أنها امرأة مشلولة تجلس على عربة مدولبة. كأنه يقابل هنا بين الحياة الجديدة التي ارتجاها، وبين المرأة المشلولة.
تطرح الرواية أيضاً، المفاهيم الدينية الشقاقية في المجتمع العراقي، ويناقشها السارد من منطلق علمي وعقلاني، بخلاف الطرف الآخر (حميد) الذي يعتقد بصحة المفاهيم استناداً إلى العرف والجماعة المذهبية والوراثة. تكشف الرواية عن المصاعب التي تواجه المهاجر، بعضها نفسية منتزعة من الذاكرة المثقلة بتاريخ من الآلام والمآسي الشخصية والعامة. في نهاية الرواية، حاول الانتحار للتخلص من ثقل تلك التساؤلات الموجعة، لكن الصدفة تأبى إلا أنْ تعيده إلى واقعه المرير وإلى تلك التساؤلات التي لا تنتهي.