مقالة منشورة في جريدة العالم الجديد

يعمي انلاصت علينه


في مثل هذا الشهر قبل أربعة وعشرين عاماً كانت طائرات التحالف الدولي - بضمنهِ بعض الدول العربية طبعاً - تقصف البنى التحتية العراقية كرد على احتلال النظام الصدامي لدولة الكويت. عشنا أياماً مرة في تلك الفترة. فبالإضافة إلى فقدان أبسط مقومات الحياة الآدمية كنا نعيش في حالة رعب قصوى من احتمالية أن نكون هدفاً لطائرات التحالف، خصوصاً في المناطق السكنية التي تضم بعض المواقع الحكومية أو العسكرية، وما زاد في رعبنا هو ما عمد إليه النظام من وضع مقاومات الطائرات فوق الأبنية الحكومية، ما جعلها، بالتأكيد، عرضة للقصف.

حرب قذرة مارسها الطرفان والضحية دوماً هو المواطن العراقي.
كانت أمي في تلك الأيام العصيبة، وعندما يبدأ القصف، تتناول كيسها المصنوع من القماش، والذي يحوي وثائق أفراد العائلة ونسخة من القرآن وكل ما تملك من مال، ثم تأمرنا أن نتجمع في غرفة الطعام، وهي غرفة صغيرة بمساحة ثلاثة أمتار بثلاثة أمتار ملاصقة لغرفة استقبال الضيوف تحوي مجمدة لم نستخدمها منذ انقطاع التيار الكهربائي، وكذلك بوفية خشبية كبيرة تجعل الغرفة ضيقة أكثر. كنا عشرة نفرات، أخوة وأخوات، كبارا وصغارا، إلى جانب المرحوم أبي. ننحشرُ في الغرفة كسمك السردين متخذين وضع القرفصاء. أمي تردد بهمس "احضرنا يا علي. احضرنا يا علي". أختي المعوقة هيفاء تضغط على ذراعي بيديها البريئتين بعد كل نوبة من الانفجارات. وأنا، لقوة شعور اليأس واللاجدوى المستفحل، كنت لا أطمح إلا بالعودة للنوم.

في إحدى تلك الليالي القاسية استيقظنا على هول القصف اليومي، فهرعنا إلى غرفة الطعام الضيقة كالعادة، وكان معنا حينها ابن عمي إسماعيل الذي زارنا صباح ذاك اليوم. ظلام دامس مخيف وصمت رهيب لا يخترقه إلا ارتجاج الجدران والشبابيك جراء الانفجارات. يبدو أن طائرات التحالف عاودت قصفها لإحدى منشآت التصنيع العسكري الكائنة في أبي غريب القريبة من الحي الذي نسكنه.

بعد فترة من الصمت توحي بأن الطائرات قد أمطرت ما في جعبتها من رعب؛ طرحَ إسماعيل سؤالاً على المرحوم أبي. جاء صوته المرتبك وكأنه موجة من روح تعيد الحياة إلى البيت قال "عمي الضرب جان شنو، بس من الطيارات لو جان أكو ضرب من المقاومات؟"، فأجابه أبي، بعد صمت ليس بالقصير، بصوت لا يخلو من حيرة "والله يعمي انلاصت علينا. مدري الضرب من فوكَ، مدري الضرب من جوة". ضحك إسماعيل وضحكت بعده ثم قهقه الجميع بضحكة غير المصدقين بأنهم قد نجوا من موت محقق. ضحكة الذين تعبوا من الحزن.

أتذكر عبارة أبي تلك كلما نظرت إلى أوضاع العراق التي اختلط فيها الحابل بالنابل مردداً مع نفسي "والله يعمي انلاصت علينا".